مبدأ سلطان الإرادة
يُعد مبدأ سلطان الإرادة من أهم المبادئ القانونية التي منحت للمتعاقدين حرية اختيار إبرام العقود وترتيب أثارها، وجعل العقد شريعة المتعاقدين، وهو مبدأ يقوم على أساسين، الأساس الأول هو الحرية، والأساس الثاني هو المساواة، فالحرية تُعتبر أساس النشاط الذي يظهر في الإرادة التي تنشئ العقد وتحدد أثاره، وتختار من المصالح التي تلائمها ما تشاء، ثم القانون بعد ذلك يأتي مكملًا.
وفيما يتعلق بالمساواة القانونية فهي التي تحقق المصلحة العامة، والتي تُعتبر مجموع مصالح الأفراد عن طريق إتاحة الفرصة للجميع دون تمييز.
ونستنتج من ذلك أن حرية التعاقد هي قوام العقود، ومن ثم فهي تقرر قواعد العقد وأحكامه وأصوله، ولكن هذا الأمر ليس مطلقًا، بل يوجد اعتبارات تقيد تلك الحرية.
وقد أكدت محكمة التمييز الأردنية في حُكمها رقم (7594) لسنة 2019 على تبني المُشرع الأردني لهذا المبدأ حيث قالت: ” أخطأت محكمة الاستئناف حينما ذهبت في قرارها مذهباً يناقض مبدأ سلطان الإرادة في العقود والذي تبناه المشرع الأردني حيث إن العلاقة التي تجمع بين فرقاء الدعوى يحكمها العقد والنظام الأساسي للشركة بالإضافة إلى اتفاقية الشراكة الموقعة بين المؤسسين .”
أولًا : تعريف مبدأ سلطان الإرادة
ثانيًا : نشأة مبدأ سلطان الإرادة
ثالثًا: ضوابط مبدأ سلطان الإرادة :
وسنتناول في مقالنا تعريف مبدأ سلطان الإرادة، ونشأته في الشريعة الإسلامية وفي القانون، وضوابط هذا المبدأ في الشريعة الإسلامية وفي القانون.
أولًا : تعريف مبدأ سلطان الإرادة
يُمكن تعريف مبدأ سلطان الإرادة بأنه : قدرة المتعاقدين وفق إرادتهما على انشاء العقود والتصرفات وعلى تحديد أثار تلك العقود ، عن طريق الشروط التي تغير في الأثار الموضوعة للعقد.
ونستنتج من التعريف السابق أن الإرادة تكفي وحدها لانعقاد العقد، والرضا هو العنصر الجوهري اللازم لإنشاء العقد وتحديد الالتزامات المترتبة عليه فلا يتعين أن يقيد بأي قيد يقلل من حرية التعاقد، كما أن للإرادة الحق في تعديل أثار العقود المسماة وتعديل نتائجها، واشتراط ما تشاء من شروط بغير قيد، أو حتى الغاء العقد بالكامل.
ثانيًا : نشأة مبدأ سلطان الإرادة
سنتحدث تباعًا عن نشأة هذا المبدأ في الشريعة الإسلامية ثم نشأته في القانون كما يلي :
نشأة مبدأ سلطان الإرادة في الشريعة الإسلامية :
مبدأ سلطان الإرادة ظهر مع بداية ظهور الإسلام ونزول الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم وصل مداه بأن جعله الله أساس الدين كله كما جاء في قوله تعالى : ” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” وقوله تعالى : ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم “.
ويتضح من نصوص الآيات الكريمة أن حرية الإنسان هي أساس صحة الأيمان بالله عز وجل، ومن ثم فإن بقية التصرفات تكون كذلك، لأنها أقل قيمة من الاعتقاد نفسه.
وهناك نصوص قرآنيه وأحاديث نبوية تتعلق بحرية التعاقد في مجال المعاملات ومنها :
قوله تعالى : ” يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا “
فالآية الكريمة تؤكد على تحريم أكل مال الناس بالباطل، كما أنها تجيز كل تجارة، ولكن على شرط أن تكون بتراضي بين المتعاقدين.
قوله صلى الله عليه وسلم : ” المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالا أو شرطًا أحل حرامًا “
وفي الحديث دلالة أن المسلمون مطالبون بالوفاء بشروطهم التي اشترطوها بإرادتهم باستثناء مكا يتعلق بالشروط المخالفة بالنصوص الشرعية.
نشأة مبدأ سلطان الإرادة في القانون :
عند الرومان قديمًا كانت صحة العقد تُستمد من شكله لا من موضوعه فيما عُرف بمبدأ سلطان الشكلية، ولكن مع وجود الحاجة لسرعة المعاملات، وتعقد الحياة فقد تغير الأمر وأعطيت الإرادة قسطًا من الأثر في العقد، ومن ثم يُمكن القول إن الاتفاق يُعتبر موجودًا بمجرد توافق إرادتين، فاعتراف القانون الروماني ببعض العقود التي لا غنى عنها في الحياة اليومية في مرحلة ما من مراحله مما استدعى الأمر تحررها من القيود الشكلية، ولكن كما يقول السنهوري فإن القانون الروماني لم يقرر في أي مرحلة من مراحلة مبدأ سلطان الإرادة في العقود بوجه عام.
وفي التشريع الكنسي عُرف مبدأ احترام العقود، وذلك في ظل الديانة المسيحية، أما في القرن الثامن عشر فإن الفقهاء انتهوا إلى اعتبار أن إرادة الطرفين هي الواجبة الاحترام وهي التي تلزم صاحبها وتحدد طبيعة الالتزام ومداه، وأن القانون لا يملك التدخل في حرية الإرادة في إنشاء هذا الإلزام أو حتى تحديد أثاره.
ومن ثم نجد أنه تقرر على مع مرور الأيام والأجيال أن ما تتجه إليه إرادة طرفي العقد يُعتبر ملزمًا لهما الوفاء به قانونًا، ولكن على شرط احترام النظام العام والآداب، وقد استقرأ مبدأ سلطان الإرادة في أوروبا في القرن الثامن عشر، وقد كان القانون الفرنسي هو أول من تبنى هذا المبدأ.
وقد تأثرت التشريعات العربية بالقوانين الغربية ومنها هذا المبدأ، ومن الأمثلة على ذلك في التشريعات العربية ما جاء في القانون المصري في الفقرة الأولى من المادة (147) من القانون المدني : ” العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون ” .
وقد نص على هذا المبدأ في العديد من أحكام محكمة التمييز الأردنية ومنها ما جاء في الحُكم رقم (6646) لسنة 2019 : ” على أن ( الأصل في العقد رضا المتعاقدين وما التزماه في التعاقد ) وحيث نجد أن العقد هو شريعة المتعاقدين “
ثالثًا: ضوابط مبدأ سلطان الإرادة :
سنتناول ضوابط مبدأ سلطان الإرادة في القانون العام، وفي دائرة القانون الخاص كما سيلي :
في دائرة القانون العام :
فالإرادة لا سلطان لها فيما يتعلق بالقانون العام، ويعلل السنهوري ذك بقوله : ” الروابط الاجتماعية التي تخضع لهذا القانون إنما تحددها المصلحة العامة لا إرادة الفرد “. وذلك يعني أن هذا المجال يكون المرجع فيه للقانون وحده.
في دائرة القانون الخاص:
يُعتبر القانون الخاص هو المجال الرحب لمبدأ سلطان الإرادة، فإرادة المتعاقدين تُعتبر هي السلطان الأصلي في إنشاء العقد وفي تحديد التزاماته، ولكن بحدود قانونية ووفقًا لمصالح فردية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية.
ولكن باختلاف مجالات القانون الخاص فإن دائرة مبدأ سلطان الإرادة تختلف سعة وضيقًا، فيختلف مجال الأسرة عن مجال الحقوق العينية العقارية ومجال الحقوق الشخصية والالتزامات التعاقدية، فخلاصة الأمر أن القانون نظم بعض العقود تنظيمًا أمرًا كعقد التأمين وعقد العمل، وتدخل في عقود أخرى عن طريق منح القاضي سلطة تعديل الشروط التعسفية وفق ما تقتضيه العدالة.
والقانون قد رسم بعض الحدود لتعمل الإرادة في إطارها وتنحصر تلك الحدود بعدة قيود مثل القيود التشريعية حيث تدخل المشرع في بعض العقود كعقد العمل وعقد التأمين فقيد بنص القانون حرية رب العمل في وضع شروط هذا العقد، وهناك أيضًا القيود القضائية التي تتعلق بالنظام العام والآداب، وفي ذلك قضت محكمة التمييز الأردنية في حُكمها رقم (1237) لسنة 2019 : ” إن من القواعد المستقرة في قضاء محكمتنا أن الإثبات هو من حق الخصوم فإن الشروط التي يتضمنها العقد في ما يتعلق بإثبات قيام الالتزام المترتب بذمة الطرف الآخر من العقد هو شرط صحيح يتفق ومبدأ (احترام سلطان الإرادة) في التعاقد طالما أنه لا يخالف قاعدة للنظام العام ولا يخالف الآداب العامة “.
وهناك أيضًا قيد الضرورة وتطبيقات هذا القيد نجدها في نظرية الظروف الطارئة التي تتماشى مع احترام العهود والمواثيق في المعاملات.