حماية الشاهد أمام المحكمة الجنائية الدولية
نظراً لخطورة الجرائم الدولية، وانتهاكها لحقوق الإنسان، وزعزعة السلم والأمن الدوليين، وجرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية وهي الجرائم التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية، فقد عنى القضاء الدولي بمسألة حماية الشهود، نظراً لما يتعرضون له من تهديدات تخص أمنهم وسلامتهم، لذا فقد كان من الضروري نظر هذه المسألة ومحاولة معالجتها وإيجاد الحلول اللازمة لقمع مثل تلك الانتهاكات، وهو الأمر الذي استدعى إلى خلق تدابير لحماية الشهود والنص عليها في النظام الأساسي للمحاكم الجنائية الدولية، وهو ما سندرسه من خلال المقال التالي بشيء من التفصيل.
جدول المحتويات
أولًا :- حماية الشاهد أمام المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة والمختلطة
ثانياً :- حماية الشاهد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة
وسنعرض من خلال مقالنا هذا شرحاً وافياً فيما يخص هذا الموضوع على النحو الآتي بيانه :
أولًا :- حماية الشاهد أمام المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة والمختلطة
تنشأ المحاكم الجنائية المختلطة بمقتضى اتفاقية دولية بين الأمم المتحدة والدولة المعنية، أو بقرار من مجلس الأمن وتمتاز تلك المحاكم بكونها تتألف من قضاة وطنيين إلى جانب القضاة الدوليين، وهذا أضفى عليها قبولاً من طرف الدول نظراً لوجود قضاة وطنيين.
أما فيما يخص المحاكم الجنائية المؤقتة فإنها لا تقنع بالقضاء المختلط، فهي تتكون من قضاة دوليين ومن هذه المحاكم محكمة يوغسلافيا سابقاً لعام 1993 وقد تم إنشاؤها بقرار منفرد من مجلس الأمن.
ولما للشهود من أهمية بالغة كوسيلة هامة من وسائل الإثبات، ومنعاً لأي تعدٍ يحدث للمساس بشخص الشاهد بأي وسيلة كانت فقد حظيت باهتمام بالغ من جانب المحاكم الجنائية للدولية المؤقتة، وذلك بتوفير الحماية اللازمة لمنع تهديدهم أو المساس بهم.
تعريف الشاهد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :
نرى من خلال دراستنا لنظام المحكمة الجنائية الدولية أنها تركت الساحة خالية من أي تعريف للشاهد، فيما عرفه الفقه والقضاء بأنه: ” الشخص الذي وصلت إليه عن طريق أية حاسة من حواسه معلومات عن الواقعة “.
كما أنه ” الشخص الذي يُعاصر ارتكاب الجريمة ويعاينها بأي حاسة من حواسه سواء أكانت بالسمع أو البصر أو باللمس”.
وقد عرفته محكمة النقض المصرية بأنه :- ” الشاهد لغة هو من اطلع على شيء وعاينه، والشهادة اسم مشتق من المشاهدة وهي الإطلاع على الشيء بياناً “.
ووفقا ً للمادة (69) فقد تمت الإشارة إلى تعريف الشاهد دون النص على ذلك صراحة.
فقد ذكرت الإجراءات المتبعة من قبل الشاهد للإدلاء بشهادته، والقاعدة (66) نصت على أنه يجوز لمن لم يبلغ (18) سنة، أن يدلي بشهادته شريطة ألا يلتزم بأداء التعهد، نظراً لعدم إدراكه ماهية هذا التعهد على أن يكون قادراً على وصف الأحداث التي تمت وصفاً تفصيلياً دقيقا ً، عالماً بما حدث، ولديه نزعة قول الحق.
وقد يتم الإدلاء بالشهادة شفاهية أو من خلال الوسائل التكنولوجية السمعية منها والمرئية.
حماية الشاهد أمام المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة:
تعد محكمة يوغسلافيا أول محكمة جنائية دولية تنشئها الأمم المتحدة، فقد تم إنشاؤها عام 1993، بمقتضى قرار صادر من مجلس الأمن بإنشائها لمحاكمة من قاموا بجرائم ضد الإنسانية على أراضيها عام 1991، إلى جانب إنشاء المحكمة الجنائية الدولية برواندا، لمحاكمة من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، على أراضيها.
وقد تم العمل على إنشاء وحدات خاصة لحماية الشهود من أي اعتداءات قد تنال منهم، وهذه الوحدات تكون تابعة لسلطة أمين سجل المحكمة، في كلا المحكمتين، ولا يتوقف اختصاصها على الحماية الجسدية والأمنية فقط، بل تمتد إلى تقديم كل ما يخص سلامتهم من رعاية طبية ونفسية وتقديم المشورة القانونية، وأية مساعدات يحتاج إليها أي من الضحايا أو الشهود، نظراً لما يطالهم من مخاطر قبل وأثناء وبعد إدلائهم بالشهادة.
وسوف نعرض كيفية حماية الشهود فيما يخص كلا المحكمتين على حدة:-
حماية الشهود أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة:
فيما يخص المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا فقد نصت المادة (22) من قانون المحكمة بأنه:” تعمل المحكمة على توفير الحماية للشهود والمجني عليهم وتشمل إجراءات هذه الحماية على سبيل المثال لا الحصر نظر الدعاوى في جلسات سرية وحماية هوية المجني عليهم”.
كما أكدت القاعدة (34) من قواعد المحكمة الخاصة بالإجراءات والأدلة والإثبات من وجوب إنشاء وحدات متخصصة لمساعدة كلاً من الشهود والمجني عليهم، وهذا من خلال قسم يسمى قسم الضحايا والشهود وهي هيئة مستقلة تابعة لقلم المحكمة، والمُنشأ من قِبل الأمم المتحدة للقيام بتقديم يد العون للشهود درءً لأي أذى قد يلاحقهم، سواء كانوا شهود إثبات أو دفاع.
وينقسم قسم الضحايا والشهود إلى ثلاث وحدات رئيسية كالتالي:-
- وحدة الحماية والمسئول عنها هم رجال الشرطة.
- وحدة الدعم المعنوي يُقَدم من خلالها النُصح والإرشاد إلى الشهود طوال فترة وجودهم في لاهاي.
- وحدة العمليات، والتي يُعهد إليها مهمة تأمين الشهود أثناء وصولهم إلى المحكمة، والتعاون مع موظفي الجمارك.
ويُنظم هذا القسم أيضا عملية إبلاغ الشهود بالإجراءات اللازمة لحمايتهم، وما يتعلق بسكنهم وأمورهم المالية والإدارية واللوجستية وعمليات نقلهم إلى مقر المحكمة وتأمينها.
ومن أهم الإجراءات المُتبعة لتحقيق الحماية اللازمة للشهود، قيام المحكمة بناءً على رغبة الشهود باتخاذ ما يلزم من أجل الحفاظ على خصوصية الشاهد، مع عدم الإخلال بحقوق المتهم، من حيث ضمان حق الدفاع لمواجهة الشهود وسؤالهم، حيث تُعقد في جلسة سرية، إلا أن هذا الإجراء غير كافٍ لحماية الشاهد حيث يتم الكشف عن شخصية الشاهد أمام المتهم، الأمر الذي قد يُلحق ضرراً بالشاهد وملاحقته من قِبل أنصار المتهم.
ومن الضروري إيجاد وسائل أكثر أمناً لتحقيق الحماية القصوى للشهود، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق قيام الشاهد بأداء الشهادة تحت اسم مستعار، أو من خلال أداء الشهادة صوتياً للحيلولة دون معرفة شخصية الشاهد، أو باستخدام ستار داخل الجلسة، أو تغيير الصوت والصورة، وقد يتم استعمال الأقنعة، أو أية وسيلة أخرى من شأنها إضفاء مزيد من الحماية المُفترضة للشهود.
وقد أجازت القاعدة (71) من قواعد الإجراءات الخاصة بالمحكمة استخدام التكنولوجيا الحديثة في الاستماع إلى الشهود، حيث نصت على أنه: ” يُسمح ولمقتضيات العدالة، لأي من الطرفين بتقديم طلب إلى غرفة المحكمة للسماح بتقديم الشهادة المسجلة بوساطة الفيديو، فالأصل في الشهادة أن تؤدي حضورياً أمام المحكمة، ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يتم تقديمها بوساطة تكنولوجيا العرض السمعي والمرئي “.
وقد تم تطبيق تلك القاعدة أثناء سماع شهادة الجنرال petkovic”” حيث تمت سماع شهادته من خلال التسجيل التليفزيوني المباشر من مطار “pleco” بمدينة زغرب الكرواتية، حيث إن هيئة المحكمة قررت وجود الشاهد مع أعضاء قلم المحكمة فقط، مع عدم قيام الشاهد بالاتصال مع أحد طوال فترة إدلائه بالشهادة.
وتجدر بنا الإشارة إلى أن الأصل العام فيما يخص شهادة الشهود هو المثول أمام المحكمة لأداء الشهادة، إلا أن مخالفة الأصل العام واستخدام مثل تلك الوسائل قد تم اللجوء إليها لحماية الشهود، وقد يُترك الأمر المدعي العام بشأن أمور التحقيق والمتابعة، وله في سبيل ذلك اتخاذ ما يلزم لتحقق حمايتهم، ومنها اللجوء إلى الإنتربول للمساعدة في حماية الشهود وتأمينهم وأسرهم وتنظيم عملية انتقالهم من وإلى المحكمة.
وقد تم استخدام التكنولوجيا الحديثة أيضا في قضية معسكر شيلي بيش، حيث تم إخفاء هوية عن العامة وسائل الإعلام الشهود بناءً على رغبتهم، وقد سمحت المحكمة باستخدام الفيديو لأداء الشهادة، إلى جانب ما تم ذكره بالقاعدة (75/ب) من جواز إخفاء أسماء الشهود من السجلات الخاصة بالمحكمة.
حماية الشاهد أمام المحكمة الجنائية الدولية برواندا :
المادة (14) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية برواندا قد تضمنت النص على حماية الشهود تكون قبل المحاكمة وأثناء المحاكمة وبعدها، كما أشارت المادة (19) ومن النظام الأساسي للمحكمة إلى ما يتعلق بحماية الشهود، فضلاً عن وجوب إجراء محاكمة عادلة وتتسم بالسرعة.
كما أنه قد تضمنت اتخاذ التدابير الواقية لحمايتهم من خلال ما نصت عليه المادة (21) من نظام المحكمة الأساسي.
وقد تم إنشاء وحدة لحماية الشهود مثل تلك التي تم إنشاؤها بالمحكمة الجنائية بيوغسلافيا سابقاً.
وتعمل تلك الوحدة على اتخاذ كل ما من شأنه حماية الشهود، ولها في سبيل ذلك استخدام كافة الوسائل التي تساعد في تحقيق هذا الهدف، فمن الممكن استخدام أسماء مستعارة لإخفاء هوية الشاهد، ويتم إدلاء الشهادة داخل أماكن مغلقة، وقد يتم استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل استخدام الفيديو، وتغيير الصوت والصورة من خلال البرامج الخاصة بذلك في الحالات الخطرة التي من شأنها أن تسبب أذى للشهود، إلى جانب إمكانية محو بيانات الشاهد من سجلات المحكمة لتضليل معاوني المتهم من محاولة الإيقاع بهم، كما قد يتم استخدام دوائر تليفزيونية مغلقة بالاتجاه الواحد ليتم إدلاء الشهادة أثناء نظر الدعوى.
ومن مهام هذه الوحدات أيضاّ تقديم الدعم المادي والمعنوي للشهود، لما قد يتعرض له الشاهد من تهديدات وإيحاءات، نظراً لسفرهم في كثير من الأحيان إلى مقر المحكمة بتنزانيا، الأمر الذي يخلق معه بعض الترويع في نفوسهم، أو محاولة الوصول إليهم والانتقام منهم.
وقد تم التأكيد على ذلك خلال المادة (69/5) من الإجراءات الخاصة بالمحكمة وذلك بالنص على أنه يحق لكل من النيابة العامة أو الدفاع تقديم طلب إلى المحكمة للتصريح بإخفاء هوية الشاهد إذا كان هناك خطراً من المفترض أن يُداهم أي من الشهود.
ويتبين لنا من خلال استعراض كلاً من الحماية الخاصة بالشهود وفقاً لكلا المحكمتين أنها نفس التدابير المُتخذة لحماية الشهود، إلا أنه على الرغم من كم التدابير التي تم اتخاذها لحماية هؤلاء الشهود فقد أسهم تدهور الحالة الأمنية في فقد حياة بعض الشهود، وقد أدى إلى ذلك أيضاً الاستعانة ببعض الدول في عمليات تأمين الشهود غير الراغبة أو غير القادرة على تحقيق هذا التأمين، لاسيما وأن بعض تلك الدول تعاني من اضطرابات أمنية، ومن هذه الدول الكونغو وأوغندا.
حماية الشاهد أمام المحاكم الجنائية الدولية المختلطة:
يتم إنشاء المحاكم الدولية المختلطة تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة، حيث تقوم بالفصل في بعض الجرائم ذات الاختصاص الوطني والجرائم الدولية، ولهذا فقد تم تسميتها بالمختلطة.
ومن أهم المحاكم المختلطة تلك التي تم إنشاؤها بلبنان، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني ” عمر الحريري” عام 2005، وقد تم إنشاؤها بموجب قرار مجلس الأمن رقم (1757) الفصل السابع.
ومن الأسباب التي أدت إلى قيام المحاكم الجنائية المختلطة، عدم تضمين جريمة الإرهاب من الجرائم التي تختص بها المحاكم الجنائية الدولية، الأمر الذي استدعى محاولة إيجاد حل لتلك الأزمة من خلال إنشاء محاكم جنائية دولية مختلطة حتى يتسنى لها تحقيق العدل، قد تم اعتبار عملية اغتيال رئيس وزراء لبنان من ضمن العمليات الإرهابية، وقد تم إنشاؤها عام 2007، بمقتضى قرار مجلس الأمن خلال جلسته رقم 5685.
وقد تم الإقرار بإنشاء وحدة خاصة بحماية الشهود بموجب المادة (12/4) يُوكل إليها مهمة حماية الشهود، وإمدادهم بالدعم المادي والمعنوي، وقد قررت المادة (28/1) من النظام الأساسي للمحكمة إلزام القضاة بوضع الإجراءات التي من شأنها العمل على حماية الشهود والمجني عليهم وذلك فور توليهم لمناصبهم.
وقد تم طرح أمر غاية في الأهمية وهو ما يتعلق بشهود الزور فقد عرضت أمام المحكمة الاستئنافية، إلا أن هذا ليس من ضمن اختصاصات المحكمة، فهي فقط تختص بالنظر في عدد محدود من الاعتداءات كالإصابات التي نجمت عن أربع تفجيرات، ولا يمكن أن تغير المحكمة اختصاصها الذي انعقدت من أجله إلا بموجب اتفاق مع هيئة الأمم المتحدة.
وبالنظر إلى القاعدة (50) من قواعد الإجراءات والإثبات نجد أنها قد نظمت الإجراءات المُتبعة لحماية الشهود وذلك عن طريق إنشاء وحدة مختصة بحماية الشهود وكل متضرر من جراء هذه المحاكمات، وقد أوكل إليها مهمة اتخاذ كل ما من شأنه تحقيق الحماية اللازمة للشهود، وفي سبيل استخدام ذلك يحق لهم تقديم جميع المساعدات التي تضمن مساعدتهم، وقد يكون منها الدعم الطبي والنفسي، إلى جانب المساعدات الإدارية والتنظيمية والمتمثلة في تحقيق سلامتهم وأمنهم، وأيضاً القيام بتبليغهم بكل ما يخص إجراءات التحقيق، والوقوف على الحقوق والواجبات الخاصة بهم، وقد يكون بتنفيذ ما تأمر به المحكمة من تقديم المساعدات لهم.
وقد تتشابه الإجراءات الخاصة بحماية الشهود وفقاً لنظام المحكمة المختلطة، بالإجراءات والتدابير التي اتخذت بالمحكمة الجنائية الدولية المؤقتة بكلٍ من يوغسلافيا ورواندا، من استخدام وسائل حماية الشهود والمتضررين بأحدث وسائل التكنولوجيا آنذاك، فقد سُمح لهم بأدلاء الشهادة عبر التليفزيون ومحاولة التنكر لإخفاء هويتهم من خلال أسماء مستعارة وتغيير خلقتهم، وغيرها الكثير من الوسائل، إلا أنه فيما يتعلق بالمحاكم الجنائية المختلطة فلم تعر اهتمام بالنسبة لمسألة نقل الشهود والمتضررين من وإلى المحكمة، وهذا ما يجعل تعرض الشهود للاغتيالات والمخاطر أمراً سهلاً.
ونرى قصوراً واضحاً من خلال إغفال هذا الأمر داخل النظام الأساسي للمحكمة.
ثانياً :- حماية الشاهد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة
نظراً لما يتعرض له الشاهد من عديد الانتهاكات، الأمر الذي اضطر المحكمة الجنائية الدولية إلى وضع حد لتلك التجاوزات من قِبل المجرمين، عن طريق تطبيق بعض القواعد الإجرائية والموضوعية والتي تُسهم في إعمال تلك الحماية، وهو ما سنعرضه على النحو التالي :-
الحماية الموضوعية الشاهد وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:
ويكون ذلك من خلال الحيلولة دون ممارسة عنصر الإكراه عليه، حيث يُعد الإكراه من أهم الأسباب التي تدفع الشاهد لتغيير شهادته، أو منعها.
ويؤدي ذلك إلى بطلان الشهادة نظراً لتزييف الحقيقة، وللإكراه نوعان، يتمثلان في الإكراه المادي، والمعنوي كالتالي :-
- الإكراه المادي
فالإكراه المادي يُعد وسيلة ضغط، ويتحقق من خلال قوة خارجة عن إرادة الشخص تسلبه حريته، وتُجبره على فعل ما من شأنه أن يقلب الموازين، وإتيان ما يُخالف القانون، ولابد أن يكون من غير الممكن توقع حدوثه، فإن توقع المُكره حدوثه فليس له الادعاء به.
ومن صور الإكراه المادي، محاولة التأثير على الشخص بدنياً وبأي وسيلة كانت، بحيث يجعل الشخص طوعاً له، وتحت تأثيره، سواء تسبب في إيلامه أم لا وتُعد تلك الشهادة باطلة، وذلك لصدورها تحت تأثير قوة أخرى.
- الإكراه المعنوي للشاهد
الإكراه المعنوي هو كل ما من شأنه الضغط على الشاهد معنوياً لإرغامه على العدول عن أقوله، وذلك عن طريق ممارسة أساليب التهديد بإلحاق أضرار جسيمة به، ويلزم أن يكون الإكراه المعنوي غير متوقع فإن كان متوقعًا ولم يأخذ الاحتياطات اللازمة لدفع هذا الإكراه، فلا يؤخذ به ولا يُعد إكراهاً.
فهو ينطوي على الضغط النفسي للشاهد لا الضغط المادي، فالشاهد يوافق على ما يطلبه الخصوم خوفاً من تنفيذ تهديدهم والذي يتعذر معه القدرة على منعهم من تنفيذ هذا التهديد.
وقد لا ينصب تهديد الشهود على إيذائهم، بل إيذاء المقربين لهم، وهو ما يضطرهم إلى تنفيذ رغبتهم، ولا يُشترط أن يكون التهديد بواسطة وسائل تُشكل عنفاً.
حماية الشاهد من الإكراه في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:
أكدت المحكمة الجنائية الدولية على ضرورة حماية الشهود ضد أي اعتداء يقع عليهم وذلك من خلال ما نصت عليه المادة (70) من نظام المحكمة الدولية الجنائية والتي قررت في فقرتها “الثالثة” عقوبة السجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامه وفقًا للقواعد الإجرائية وقواعد الأثبات أو بكلتا العقوبتين، لكل من حاول إعاقة أحد مسئولي المحكمة أو ترهيبه أو ممارسه تأثير مفسد عليه بغرض إجباره على عدم القيام بواجباته أو القيام بها بصورة غير سليمه أو لإقناعه بأن يفعل ذلك، و أيضا ممارسة تأثير مفسد على شاهد أو تعطيل مثول الشاهد أو إدلاءه بشهادته أو التأثير عليهما أو الانتقام من شاهد لإدلائه بشهادته أو تزوير الأدلة أو العبث بها أو التأثير على جمعها.
ومن الجدير بالذكر أن جريمة التدخل في شهادة الشهود تسقط بالتقادم بمضي خمس سنوات من تاريخ ارتكاب تلك الجريمة، شريطة ألا يتم قطع مدة التقادم بأي إجراء من إجراءات التحقيق أو الملاحقة القضائية.
أما فيما يتعلق بسقوط العقوبة، فإنها تسقط بمضي عشر سنوات من تاريخ صيرورة الحكم نهائياً ويتم قطع مدة العشر سنوات إذا قام الشخص بالهرب خارج البلاد، أو باحتجاز الشخص، فلابد أن يوجد المتهم خلال فتره العشر سنوات داخل البلاد.
وقد ذكرت المادة ( 70/1/أ) جريمة شهادة الزور والنص على عقوبة شاهد الزور، إلا أنه إذا كانت تلك الشهادة قد تمت نتيجة إكراه الشاهد فهنا تنتفي المسؤولية الجنائية نظراً لوجود مانع من موانع المسئولية وهو الإكراه، وقد ذكر هذا من خلال نص المادة (31/1/د) .
الحماية الإجرائية للشاهد:
هناك بعض الواجبات التي فرضت على الشاهد للقيام بها حتى يتم الاستفادة من تلك الضمانات الإجرائية ومن هذه الواجبات أداء الشهادة وذلك لأن أداء الشهادة واجب أخلاقي وهو التزام يقع على عاتق الشاهد، فواجبه يتمثل في قيامه بأداء الشهادة وسرد جميع ما شاهده أو سمعه بدقة وأمانة وصدق، وأيضاً كل ما يتعلق بالجريمة سواء وقائع حدثت قبل وقوع الجريمة أو أثناء حدوثها، لمحاولة استنتاج الدوافع التي أدت إلى ارتكاب الجريمة.
وللمحكمة سلطة إجبار الشاهد على الإدلاء بشهادته، إلا في حالات معينة منها: شهادة أزواج أو أبناء أو أحد أبوي المتهم فلا يجوز إجبارهم، وفقاً للقاعدة (75)، وأيضا لا يجوز إجباره إذا تعلق الأمر بأسرار العمل، أو سرية معاملات الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر، أو سرية الاتصالات بينه وبين رجال الدين، أو حالات إجباره بالشهادة على نفسه.
وفي حال أن أجبرت المحكمة الشاهد على أداء شهادته ولم يمتثل لأمر المحكمة، يتم حرمانه من حضور الجلسات أو تغريمه مبلغ 2000 يورو أو ما يعادلها في العملات الأخرى.
ومن واجبات الشاهد أيضاً التزام الشاهد بالحضور والتعهد بالتزام الصدق، فالشاهد يتعهد بأن يؤدي شهادته بصدق وأمانة، ولا يهم وسيلة الإدلاء بالشهادة سواء باستخدام التكنولوجيا الحديثة عن طريق العرض السمعي أو المرئي أو حضور الشاهد بنفسه أمام المحكم، وإنما المهم هو أن يدلي الشاهد بشهادته بنفسه، ولا يجوز أن ينيب عنه أحد فيها، نظراً لخطورة هذه الشهادة في حق المتهم وارتباطها برؤية الشخص الحدث رأي العين، ويتعهد وفقاً لما نصت عليه المادة (69) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة (66) من قواعد الإثبات.
حيث يقوم بأداء تعهد قبل الإدلاء بالشهادة بقوله ” أعلن رسمياً أنني سأقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق” وكما سبق وأن أشرنا فإنه يلتزم بأداء هذا التعهد من بلغ ثمان عشر سنة، ولا يلتزم به ما دون ذلك، لعدم إمكانية إدراكه لطبيعة التعهد.
ولضمان عدم أداء شهادة زور، فلابد أن يتم إخباره بعقوبة جريمة شهادة الزور، وأيضاً أداءه للتعهد يعد من قبيل منعه من أداء الشهادة زوراً.
ضمانات حماية الشاهد للإدلاء بالشهادة:
وفقاً لما نصت عليه المادة 43 فقرة 6 فإنه ” ينشئ المسجل وحدة للمجني عليهم والشهود ضمن قلم المحكمة، وتوفر هذه الوحدة بالتشاور مع مكتب المدعي العام تدابير الحماية والترتيبات الأمنية والمشورة والمساعدات الملائمة الأخرى للشهود المجني عليها الذين يمثلون أمام المحكمة وغيرهم ممن يتعرضون للخطر بسبب هؤلاء الشهود بشهادتهم، وتضم الوحدة موظفين ذوي خبرة في مجال الصدمات النفسية بما في ذلك ذات الصلة في جرائم العنف الجنسي.
ومنه يتبين لنا أن المحكمة بها جهازين لتولي مهمة حماية الشهود وهما: ( قلم المحكمة، ووحدة ضحايا الشهود ). وسنتطرق لشرحهما فيما يلي:
قلم المحكمة:
يختص قلم المحكمة بكل ما يخص الشهود من إبلاغهم بالأماكن التي يوجد بها وحدة الضحايا والشهود داخل البلاد التي يقيمون بها ويجب أن توفر لهم كافة المعلومات اللازمة وبجميع اللغات وإقناعهم بالمثول لأداء الشهادة أمام المحكمة كما أن من مهامها أيضاً الاتفاق مع الدول لنقل وتقديم الخدمات إلى الضحايا والشهود المصابين نفسياً من جراء التهديدات التي يتعرضون لها.
وحدة الضحايا والشهود:
يقوم قلم المحكمة بإنشاء ما يُعرف بوحدة الضحايا والشهود والتي يتعين فيها عدد لا بأس به من الموظفين من زوي الخبرة في مجال الصدمات النفسية وتقوم وحده الضحايا والشهود بحمايه الشهود بالتعاون مع المدعي العام، ويجب أن تنسق المحكمة مع هذه الوحدة من أجل توفير الحماية اللازمة لهم، ويتم التشاور مع المحكمة والمدعي العام من أجل العمل على توفير الحماية اللازمة للشهود.
كما يجب أن يتم توفير الأموال والأشخاص ذوي الكفاءة للعمل على إنجاز المهام الموكلة إلى الوحدة.
وقد نصت المادة 19 من القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات على المؤهلات التي يجب توافرها في الأشخاص المنضمين لوحدة الضحايا والشهود على النحو التالي ” الخبرات المتوفرة في الوحدة بالإضافة إلى الموظفين المذكورين في الفقرة 6 من المادة 43 ورهناً بالمادة 44 يجوز أن تضم وحدة الضحايا والشهود حسب الاقتضاء أشخاص ذوي خبرة في مجالات من ضمنها:
- حماية الشهود وأمنهم.
- المسائل القانونية والإدارية بما فيها المجالات المتصلة بالقانون الإنساني والقانون الجنائي.
- أداره المهمات اللوجستية
- علم النفس في الإجراءات الجنائية.
- المسائل الإنسانية والتنوع الثقافي.
- الأطفال خصوصاً الأطفال المصابين بصدمات نفسية.
- المسنون لاسيما فيما يتصل بالصراعات المسلحة والصدمات النفسية الناتجة عن المنفى.
- المعلقون.
- الخدمة الاجتماعية وتقديم المشورة.
- الرعاية الصحية.
- الترجمة الشفوية والتحريرية
كما أن القاعدة (17) من القواعد الإجرائية قد نظمت الأمور الخاصة بحماية الشهود وتضمنت ما يلزم توفيره للشهود وفقاً لما نصت عليه المادة (43/6) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من خلال وضع خطط طويلة المدى وقصيرة من أجل حمايتهم وتوفير الأمن اللازم لهم، كما سبق وأن بينا ذلك.
تدابير حماية الشاهد:
بمقتضى المادة (57/3/ج) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وقد أناط بالمحكمة حماية الشاهد وتوفير كافة الوسائل التي تعمل على حمايته لضمان أداء الشهادة بحرية تامة ودون خوف.
وهناك تدابير عامة لحماية الشهود وتدابير خاصة وسنعرض كل منهما على النحو التالي.
التدابير العامة لحماية الشهود:
تقوم المحكمة ببعض التدابير التي من شأنها أن تلحق حماية خاصة بالشهود قبل وأثناء وبعد سير القضية، وتقوم هذه التدابير تحت رعاية وسلطة قلم المحكمة وتعرف تلك بالتدابير غير الإجرائية، وذلك من خلال العمل على إخفاء كافة المعلومات المتعلقة بالدعوى أو الواردة بالوثائق المقدمة من طرف إلى الطرف الآخر، وأيضاً عدم الإفصاح عن هوية الشهود للجمهور ووسائل الإعلام.
ويجب أن يُوضع في الاعتبار الظروف والملابسات حول الشهادة والشهود، بما في ذلك إرهاق الشهود نفسياً وبدنياً، ومراعاة المسنين وتدهور حالتهم الصحية أثناء نظر الدعوى، وقد تمتع المدعي العام بسلطة تامة في جمع المعلومات والاستدلالات الخاصة بالدعوي، وله ألا يكشف عن المعلومات الخاصة بالقضية أو الشهود.
كما أنه قد تختلف لغات كل من المتهم والشاهد، لذا فقد خولت المحكمة لهم سلطة الإتيان بمترجمين لتوضيح أقوال الشاهد للمتهم، حتى يقف على مواطن جريمته وأدلة إثباتها ليتمكن من الرد عليها، ولهذا أيضاً دوره في حماية حق الشاهد من فهم شهادته التي أداها على الوجه الأمثل.
التدابير الخاصة لحماية الشهود:
وتوجد أيضاً بعض التدابير الخاصة التي وضعتها المحكمة من أجل تحقيق حماية قصوى للشهود في ظروف معينة، وفي الحالات الاستثنائية، ومن هذه التدابير تنظيم أخذ الشهادة من المسنين والأطفال، وكذا المصابين نفسياً، والمتعرضون لاعتداءات جنسية، وهذا ما أشارت إليه المادة (68) بالفقرتين الأولى والثانية.
وتقوم المحكمة أيضاً بعرض الأمر على الشخص الذي يتم الإجراء بشأنه للحصول على موافقته لتنفيذ هذا الإجراء، ومتى طُلب ذلك المدعي العام، أو الدفاع، أو أحد الشهود، أو دون طلب من أحد، ذلك من أجل التيسير على الشهود لأداء شهادتهم دون خطر، كما يُسمح لأُسر الشهود بالحضور معهم أثناء حضور الجلسة. ويتم إقرار العمل بتلك التدابير بعد إجراء جلسة سرية للمشاورة فيما يخص تلك التدابير، وبيان عما إذا كانت ضرورية من عدمه.
كتابة : نسمة مجدي والمحامي سامي العوض