دور القواعد والضوابط الشرعية في مواجهة الأزمات الاقتصادية
في وقتنا الحالي نواجه الكثير من الأزمات الاقتصادية نظراً لعدم تطبيق القواعد والضوابط الشرعية والتي شُرَّعت من أجل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وحل تلك الأزمات، فقد وضع لنا الشرع الحنيف قواعد ميسرة تساعدنا في معاملاتنا، وتسهم بشكلٍ فاعل في حل أزماتنا الاقتصادية، فلو أمعنا النظر فيها لوجدنا أن فيها أمن واستقرار تعاملاتنا وتجارتنا، وسوف نسهب من خلال مقالنا التالي شيءً من تلك القواعد على النحو الآتي
دور القواعد والضوابط الشرعية في مواجهة الأزمات الاقتصادية
أولاً: تعريف الأزمات الاقتصادية لغةً واصطلاحا
ثانيًا: القواعد والضوابط العَقَدِيَّة الإيمانية لمواجهة الأزمات الاقتصادية
ثالثًا: القواعد والضوابط الخُلقية لمواجهة الأزمات الاقتصادية:
رابعًا: القواعد والضوابط الفقهية لمواجهة الأزمات الاقتصادية:
لكي يتسنى لنا معرفة تلك القواعد، فيجب علينا أن نشير أولاً إلى تعريف الأزمة لغةً واصطلاحا ومنها إلى القواعد والضوابط التي تسهم في حل الأزمات الاقتصادية ” العقدية منها والخُلقية ثم الفقهية ” وذلك على النحو التالي:
أولاً: تعريف الأزمات الاقتصادية لغةً واصطلاحا
- تُعَرَّف الأزمة لغةً: بأنها الضيق والشدة، يقال: أزمة مالية أي ضائقة مالية شديدة.
- تُعَرَّف الأزمات الاقتصادية اصطلاحا: بأنها اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي في قطر ما أو عدة أقطار، وهي تُطلق بصفة خاصة على الاضطراب الناشئ عن اختلال التوازن بين الإنتاج والاستهلاك.
كما تُعَرَّف بأنها: مرحلة تباطؤ للنشاط الاقتصادي تأتي بعد مرحلة تَوَسُع اقتصادي، وتتميز عادة بانخفاض عنيف للإنتاج، ولمعدل النمو، وبارتفاع معدل البطالة.
ومن تعريفاتها أيضاً: اختلال في التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والذي يتميز بتراجع الطلب، والإفلاس والبطالة، ونقص أو قلة في شيء معين كالقول بأزمة العقار، أو أزمة السكن.
ويتضح لنا من التعريفات السالفة البيان أن التعريف الأول يتسم بالدقة والشمول عما سلفه من تعريفات، لقُرْب معناه من التعريف اللغوي للأزمة، ونظره للعنصر المكاني للأزمة، إذاً فهو من أفضل التعريفات الثلاثة.
ثانيًا: القواعد والضوابط العَقَدِيَّة الإيمانية لمواجهة الأزمات الاقتصادية
خُلِق الإنسان لعبادة الله الواحد القهار، ومن مظاهر هذه العبودية الانصياع لأوامر الله في جميع ما أمر به وما نهى عنه، ويُعَد النشاط الاقتصادي من المعاملات التي نظمها الله سبحانه وتعالى من خلال الشرع الحنيف.
وهناك من الأصول والمعاني الكثيرة التي تضبط هذا السلوك الاقتصادي، وسنعرض منها ما له دور في مواجهة الأزمات الاقتصادية على النحو التالي:
· الإيمان التام بأن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه:
يوجد ضابطٌ شرعي ينظم لنا هذه المسألة، حيث إن الله قد استخلفنا في ماله، وحث على ضرورة صيانة هذا المال، وحسن التصرف فيه، بعدم صرفه فيما حرمه الله، والاقتصاد وعدم الإسراف في القبيحات، مع إيلاء الاعتبار بالإنفاق في وجوه الخير، ومن قام بما أمر الله به من حق الإستخلاف فقد نال الجزاء الأوفى في الأخرة.
فقال الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ” ءَامِنُوا بِالله وَرَسُلِه وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ “
وفسر أبو السعود رحمه الله قوله تعالى” وَءَاتُوهُم مِن مَّالِ الله ٱلَّذِيٓ ءَاتَكُمْ “: وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه إيَّاهم؛ الحق على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به، كما جاء في قوله تبارك وتعالى” وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعْلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ “، فنلاحظ أن الله سبحانه وتعالى بذكره أنه المالك الحقيقي للمال وإيتائه إيانا من ماله، في هذا دافعٌ للمُسْتَخلف على إنفاق هذا المال فيما أمره الله به.
وقال أيضاً في تفسيره قول الله تعالى: ” وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ “: أي جعلكم خلفاءَ في التصرف فيه من غير أن تملكوا حقيقةً عَبَّر عمَّا بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً لهم في الإنفاق، فإنَّ من علم أنها لله عز وجل وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عيَّنه الله تعالى من المصارف هان عليه الإنفاق.
ويُلاحظ أنه إذا طبقنا هذا الضابط كما يجب، بأن أنفقنا فقط فيما أحله الله وتجنبنا الإسراف، وساعدنا كل محتاج، فإن هذا سيكون له بالغ الأثر على حل الأزمات الاقتصادية.
· التَّيقن بأن ما رزقنا الله به من خيرات يكفي البشر جميعهم:
خلق الله الإنسان وسخر له جميع الكائنات، بل وأنزل جميع الخيرات التي تفي بحاجات البشرية جمعاء من يوم أن خلق الله الأرض إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ورزق الطير والدواب وكل شيء، فقال تعالى: ” وكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱلله يَرْزُقَهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ ٱلْعَلِيم “. وهذا من لطف الله ورحمته بعباده، حتى العُصاة لم يمنع عنهم رزقه، وملئ الأرض بكل ما يحتاجه الإنسان في زراعته وصناعته، وقد قال تعالى ” وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ” أي: أرزاق أهلها ومعاشهم. وقيل : يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض .
وفي قوله تعالى في سورة الحجر” والأرضَ مَدَدْنَاها وأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ أَنبَتْنا فِيهَا مِنْ كُلِ شَيءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِّنْ شيءٍ إلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلا بِقَدَرٍ مَّعلُومٍ “
أي أنه كما جاء بجامع البيان في تأويل القرآن للطبري: ما من شيءٍ نافعٍ للبشرية هي في حاجةٍ إليه لِقَوام حياتها عليه إلا عند الله خزائنه، ومن ذلك الأمطار، ولكن يُنَزَّله بقدرٍ معلوم حسب حاجة المخلوقات إليه وما تتوقف عليه مصالحهم، فما من عامٍ بأكثر مطراً من عامٍ ولا أقل، ولكنه يُمْطَرُ قومٌ، ويُحْرَمُ آخرون.
ومنه فإن كل شيء خلقه الله للبشرية هو مقدر ومعلوم، ويكفي حاجة البشر دون نقصٍ أو زيادة.
حيث قال الله تعالى في سورة الشورى ” حيث بسط الله الرزق لعباده لَبَغَوْ في الأرض، ولكن يُنَزَّلُ بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبيرٌ بصير “. فلو بسط الله الرزق لعباده وأعطاهم فوق حاجتهم لَتَجَبَّروا وبغوا في الأرض.
وقال الإمام الشعراوي رحمه الله: (فالحق سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسانُ نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض، ولا ينسى هذه الحقيقة، فيظن أنه أصيل فيها. والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك، ممدود ممن أمدك، فإياك أن تغتر، وإيَّاك أن تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدَّره الله لك، فإن إعتبرت نفسك أصيلاً ضَلَّ الكون كله؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دولاً، فالذي وسع عليه اليوم قد يُضيَّق عليه غداً، والذي ضُيِّق عليه اليوم قد يُوَسَّع عليه غداً، وهذه سنة من سنن الله في خلقه لِيَدِكَّ في الإنسان غرور الاستغناء عن الله، فلو متع الله الإنسان بالعمى دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب إرزقني، ولو متَّعه بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب اشفني؛ لذلك يظل الإنسان موصولا بالمنعم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه، فالحاجة هي التي تربط الإنسان بربه وتوصله به سبحانه في البسط والتضيق من الله تعالى له حكمة، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، فيعطيهم كل ما يريدون ولا يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويُريهم ما يكرهون، بل يعطي بحساب وبقدر؛ لتستقيم حركة الحياة، لأن الحق سبحانه وتعالى لو لم يوزع الرزق هذا التوزيع الحكيم لاختل ميزان العالم، فمن بُسِطَ له يستغني عن غيره فيما بُسِط له فيه، ومن ضُيِق عليه يتمرد على الكون ويحقد على الناس، ويحسدهم ويعاديهم، إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر الله وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولاً بالمُكوِّن الخالق سبحانه).
ولكن على الرغم من توافر الخيرات للبشرية جمعاء إلا أنه توجد مجاعات، وسوء توزيع للثروات، يحدث ذلك نتيجة لعدم استغلال تلك الخيرات على الوجه الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به، ومن الأسباب التي أدت إلى ذلك:
1. عدم استغلال الإنسان كامل جهوده الذهنية والبدنية:
فنرى كثير من الناس من يكتفي بوظيفة لا تستهلك جل جهده، رغم قدرته على العمل أكثر من ذلك، وهذا لا يتوافق مع المبادئ العَقَدِّية للاقتصاد الإسلامي، فهناك أُناس لا يقدرون على العمل، فعلى القادر قضاء حوائج غير القادر.
قال الشعراوي رحمه الله: ( حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تُحسن معاملة نفسك وغيرك، عليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله فقد سخر لنا الحق كل الوجود، وأعطانا كل مقومات الحياة ويوضح لكل منا: اعبدي اجعل كل قيامك لله، ولا تكن قائما فقط، ولكن كن قواماً… بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فإعمال، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط، ولكن اعمل على قدر طاقتك؛ لأنك لو عملت على قدر حاجتك، فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به. إذن فإعمال على قدر طاقتك؛ لتتسع حركتك للناس جميعا ويكون الفائض من عملك لغيرك).
2. عدم استغلال الإنسان للموارد على الوجه الأمثل:
وهذا ما يحدث في البلدان في وقتنا الحالي، من سوء توزيع الموارد، وتفشي الفساد الإداري.
3. الكفر بنعم الله
فقد قال الله تعالى في سورة النحل: ” وضرب الله مثلاً قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”.
4. إسراف الخَلق في حاجاتهم المادية
حيث أصبح الناس يشترون كل ما يحبون، لا ما يحتاجون، غير عابئين بغيرهم من المحتاجين، فقال الحق تبارك وتعالى ” إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوانَ الْشَّيَاطِين وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِهِ كَفُوراً “.
5. إتلاف توزيع الموارد الطبيعية والكثافة السكانية على مستوى الدول.
6. وقد يكون النقص الفردي أو الدُّوَلِيُّ ابتلاء من الله جل وعلا:
كما جاء في قوله جل وعلى: ” ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ثالثًا: القواعد والضوابط الخُلقية لمواجهة الأزمات الاقتصادية:
من أهم القواعد التي تؤثر بشكل إيجابي على حل الأزمات الاقتصادية:
1. الدعوة إلى الصدق بين المتعاملين، وتجنب الغش في المعاملات:
فما نراه من غش في المعاملات، وعدم الأمانة بين التُّجار، يدعو إلى الاستياء، فالدعوة إلى الصدق والتناصح فيما بينهم من شأنه أن يأخذنا إلى عالم أفضل بكثير، حيث التناصح يؤدي إلى توافر المعلومات داخل الأسواق المحلية والعالمية، والبعد عن الاحتكار الذي يعد من أهم أسباب خلق الأزمات الاقتصادية.
فعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء “.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه” إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُنْ أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجتُ من بينهما “.
وقد نهى رسولنا الكريم عن بعض المعاملات، نظراً لما فيها من كذب وغش، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تَلَقَّوا الركبان ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبيع حاضر لبادٍ ولا تُصَرُّوا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن رضيها أمسكها، وإن يحطها ردها وصاعاً من تمر “.
فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأشياء، لخلوها من الصدق والأمانة، وهذا يؤثر على المجتمع حيث لم يعد هناك عدالة في توزيع دخول الأشخاص، الأمر الذي يخلق معه أزمات اقتصادية قاحلة.
2. السماحة في التعامل:
فقد حثنا الشرع الحنيف على السماحة في البيع والشراء، وعدم غل يد المشتري بالغلاء الفاحش والاحتكار، وحسن الأداء وقت سداد الديون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من أنظر معسراً ووضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله “
3. التوزيع العادل للثروات:
التوزيع العادل للثروات لا يعني المساواة في توزيعها، لأن في ذلك إخلال بحقوق الملكية الخاصة، فليس هذا ما يقصده الشرع الحنيف، وإنما أن يكون هناك توزيع عادل للثروات.
4. الوسطية في الإنفاق:
فقال الله تبارك وتعالى: ” يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين “.
فالإسراف في الموارد من أهم عوامل تحقق الأزمات الاقتصادية، وإهدار الأموال والثروات.
رابعًا: القواعد والضوابط الفقهية لمواجهة الأزمات الإقتصادية:
وضع لنا الشرع الحنيف بعض الضوابط الفقهية، والتي تأخذ بأيدينا إلى حيث الأمان في حياتنا ومعاملاتنا ومن هذه الضوابط:
· قاعدة الغُنْم بالغُرْم:
تُعَرف قاعدة الغُنْم بالغُرْم بأنها ( ما يلزم المرء من مال لقاء ما يحصل له من منافع من ذلك الشيء، وأن من يحصل على الغُنْم لا بدَّ في مقابل ذلك أن يتحمل الغُرْم إذا وقع).
وهذا لا يعني مطلقاً أن يحصل الغُرْم لكل من حصل على الغُنْم، فقد لا يقع عليه غُرْم.
فالمضاربة مثلاً وهي أن يعطي رجلاً مبلغاً من المال لشخص يضارب به مع ماله، فإذا خسر ذلك المال فلابد أن يتحمل الاثنان تبعات تلك الخسارة، كلٌ بحسب نسبته في المال، نظراً لما يتحمله هذا التاجر من مشقة في سبيل عمله وتجارته، وفقاً للشرع الحنيف الذي نهى عن الظلم لذا فقد وضع تلك القاعدة الهامة في فقه المعاملات.
ومنه يَبِين حرص الإسلام على تحقيق العدل، ومحاولة درء أي خلاف قد ينشأ من خلال المعاملات اليومية والأزمات التي تنشأ بحكم الشراكة بينهم، فمن تحققت له المنفعة فلا بد أن يتحمل تبعة الغُرْم أيضاً، على القدر الذي شارك به، ويتحمل المُضارب باقي الخسارة لتحمله الكثير من المال.
وأيضا ففي البنوك التقليدية تحدد الربح قبل استثمار أموال المودعين، فحينما يقوم المودع بوضع أمواله داخل البنك، يحدد البنك معه مدة محددة حتى يقدر المودع على سحب أمواله، ومن المُفترض أن البنك يقوم باستثمار تلك الأموال، لذا فمن الظلم تحديد نسبة ربح مسبقة، وفي هذا لا يتم تطبيق قاعدة الغُنْم بالغُرْم.
فقد لا يتحصل البنك على الفائدة التي قررها مسبقاً للمودعين، فيتحمل تبعة الغُرْم كاملة، وفي هذا إجحافاً بحق أحد الشريكين، وهو الأمر الذي يضطر البنك لأن يُقرض الناس بفائدة عالية حتى يسد العجز ويرد أموال المودعين بالفائدة المقررة لهم سلفاً، والباقي يودع بالبنك، وهذا أدى إلى انتشار الربا بشكلٍ بالغ، وساهم في انهيار الاقتصاد في شتى المجتمعات.
وقال الدكتور عبد العزيز عزام: “والبعد عن شرط الأسد وهو ذلك الشرط الجائز الذي ضمن الكسب لطرف دون طرف، وهذا الشرط ينافي العدل ويحقق الظلم، فإن تحديد مقدار معين مسبق من الربح بنسبة معينة من رأس المال لا يحقق العدالة فقد يكون مساوياً لما تم تحديده وقد يكون دونه فإن إعطاء هذا المقدار المحدد لطرف يمثل تمييزاً له على حساب شريكه وهذا ما يسمى بشرط الأسد”.
وقد نهانا شرعنا الحنيف عن شرط الأسد هذا، الذي به مخاطرة تتنافى مع الشرع الشريف.
والأدلة كثيرة على تطبيق قاعدة الغُنْم بالغُرْم ومنها:
قوله تعالى “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله وعلموا أن الله بما تعملون بصير”.
وقد قال الإمام ابن العربي: ” فمن الناس من رَدَّهُ إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن، ويستند إلى عمر، فأوجبوا على قرابة المولود الذين يرثونه نفقته إذا عدم أبوه “.
وجه الدلالة من الآية: أن قرابة المولود الذين يرثونه أي يتحصلون على غُنْمه بعد وفاته، هم من يجب عليهم أن ينفقوا عليه إذا عدم أبوه، وذلك كما ذكر الفقهاء؛ إذ أن الغُنْم يكون في مقابل الغُرْم.
فيتضح لنا من خلال تطبيق هذه القاعدة أنها وبشكلٍ كبير ستسهم في حل الأزمات الاقتصادية، حيث تطبيق العدل بين الشركاء مما يحقق الترضية المناسبة لكل منهم.
· قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة:
من أدلة تلك القاعدة في كتاب الله قوله تعالى :” هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً “.
وقد فسر الشيخ السعدي هذه الآية بقوله: ” وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة لأنها سيقت في معرض الامتنان يخرج بذلك الخبائث فإن تحريمها أيضا يؤخذ من فحوى الآية ومعرفة المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر، فهو خارج من ذلك ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا”
وأيضاً قوله تعالى: ” ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث “
فقال الشيخ السعدي في تفسير تلك الآية: ” أعظم دليل يدل على أنه رسول الله، ما دعا إليه وأمر به ونهى عنه وأحله وحرمه فإنه يحل لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح، ويحرم عليهم الخبائث من المطاعم والمشارب المناكح والأقوال والأفعال ” . في وقتنا الحالي نواجه الكثير من الأزمات الاقتصادية نظراً لعدم تطبيق القواعد والضوابط الشرعية والتي شُرَّعت من أجل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وحل تلك الأزمات.
فمن خلال تلك القاعدة يتضح لنا أن الله سبحانه وتعالى قد أباح لنا ما فيه نفعنا، وما استثناه، وجعله من المحرمات المنهي عنها فأيضاً فيه نفعنا، فما خلق الله لنا من شيء وأحله إلا إذا كان فيه صلاحٌ لنا.
· قاعدة الضرر يُزال:
هناك أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على هذه القاعدة ومنها:
قول الحق تبارك وتعالى في سورة النساء: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً “
وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة “.
ومن السُّنة النبوية المطهرة ما أخرجه مالك في الموطأ والبيهقي وغيرهما عن عمرو ابن يَحْيَي المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا ضرر ولا ضرار “.
فنجد من خلال قاعدة الضرر يُزال أن الله سبحانه وتعالى لم يبح التملك من الحرام والحلال، وإنما وضع ضوابط شرعية، مع إعطاء الحرية في التَّملك بالحلال.
· قاعدة الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة
وتعني تلك القاعدة أنه قد يُحظر الشرع مسألة، ولكن يبيحها للضرورة كوقت الحاجة. فالحكم العام دائما، أما في وقت الضرورة فإنه مؤقت إلى أن تُقضى الحاجة، وتزول الضرورة.
مثل بيع السَّلَم: فهو بيع معدوم، ولكن أبيح فقط دفعاً لحاجة المفاليس.
وكذا عقد الإستصناع: فهو بيع معدوم إلا أن يكون هناك حاجة فقد أباحه الشرع لحاجة الناس
وهناك من القواعد الفقهية الكثير والكثير والتي سوف نُجْملها تفصيلياً في مقالٍ لاحق.