التطبيقات العملية لتسوية النزاعات الدولية أمام محكمة العدل الدولية
على الرغم من الصعوبات التي واجهتها محكمة العدل الدولية، فقد لعبت دورًا بارزًا في الحل للعديد من النزاعات الدولية وبالتالي في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين بممارسة الوظيفة القضائية لمحكمة العدل الدولية وفصلت المحكمة في العديد من القضايا على اختلاف أنواعها.
وتباينت تلك الدعاوى القضائية بين فئة تتعلق بالأرض والحدود خاصة البحرية منها إلى فئة أخرى تتعامل مع قضايا اختصاص الدولة والقانون الدبلوماسي والدبلوماسي على سبيل المثال قضية الرهائن الأمريكيين بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في عام 1979، وأخرى تتعلق بالاستخدام غير المشروع للقوة مثل موضوع الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية. بين نيكاراغوا والولايات المتحدة الأمريكية عام 1986 والفئة الرابعة تتعلق بقضايا ذات طبيعة تجارية وقضايا أخرى.
أما من خلال ممارسة الوظيفة الاستشارية فنجد أن المحكمة أصدرت العديد من الفتاوى التي تدور حول قانون المنظمات الدولية وأساليب عملها وكذلك بعض القضايا المتعلقة بإنهاء الاستعمار وحق تقرير المصير وشرعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية، ولكن نقصر موضوع حديثنا في هذا المقال على عرض إسهامات المحكمة في الشق القضائي فقط.
مساهمة محكمة العدل الدولية في تسوية النزاعات من خلال ممارسة الوظيفة القضائية:
كما ذكرنا سابقًا نظرت محكمة العدل الدولية في العديد من القضايا منذ إنشائها باختلاف أنواعها، ولكي نعرف مدى استقلالية المحكمة العامة والعالمية ودورها وأهميتها في تسوية الخلافات حاولنا دراسة نموذجين مختلفين من حيث أطراف النزاع وتواتره وموقع الصراع نفسه. ففي القسم الأول قضية الرهائن الأمريكيين التي وقعت أحداثها في وقت سيطرت عليه القطبية الثنائية وفي القسم الثاني سنناقش الصراع البحريني القطري كمثال على سعي دول العالم الثالث لحل منازعاتها من خلال هذه المحكمة
القضية الأولى: قضية الرهائن الأمريكيين (الولايات المتحدة ضد إيران)
تعتبر قضية الرهائن الأمريكيين من بين الخلافات الدولية المتعلقة بمسائل الاختصاص والقانون والأحداث الدبلوماسية والقنصلية التي جرت خلال الحرب الباردة رغم قوة أحد الأطراف في تلك القضية التي نعني بها الدولة الأمريكية نظراً لمكانتها في المجتمع الدولي كواحدة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ولما لها من تأثير في إدارة العلاقات الدولية من خلال التمتع بحق الفيتو ونجد أن المحكمة قالت كلمتها في هذا الخلاف وفق قواعد القانون الدولي.
بداية الصراع
تقدمت الولايات المتحدة لأول مرة إلى مجلس الأمن لمناقشة القضية الأنجلو إيرانية وتمت دعوة إيران بالإجماع إلى الإفراج الفوري عن أعضاء سفارة الولايات المتحدة المعتقلين في طهران وضمان سلامتهم وتأمين مغادرتهم لإيران. كما دعا المجلس إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة لحل الخلافات بينهما سلمية ووفقًا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
ورفعت الولايات المتحدة دعوى قضائية ضد إيران أمام محكمة العدل الدولية بناءً على الفقرة الأولى من المادة (36) من نظام المحاكم. كما تقدمت الولايات المتحدة بطلب للمحكمة لاتخاذ إجراءات تحفظية في تطبيق المادة (41) من نظام المحاكم والمادة (73) من لائحة إجراءات المحكمة.
حكم محكمة العدل الدولية
بادئ ذي بدء على المحكمة أن تقرر اختصاصها للنظر في القضية المعروضة عليها للنظر في هذه القضية، وأخيراً لإصدار الحكم.
-1 اختصاص المحكمة
وقد اعتمدت محكمة العدل الدولية في تحديد اختصاصها للنظر في قضية الرهائن الأمريكيين على اتفاقيتي فيينا لعامي 1961 و1963 والبروتوكول الملحق بها واتفاقية الصداقة والعلاقات الاقتصادية وحقوق القنصلية المبرمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية عام 1955، واتفاقية منع الجريمة الموجهة إلى الأشخاص المتمتعين بالحماية الدولية بمن فيهم المبعوثون الدبلوماسيون حيث اعتمدت الولايات المتحدة على هذا أيضًا كأساس لاختصاص محكمة العدل.
2- النظر في الدعوى أمام المحكمة
أصدرت المحكمة حكمها وجرت الإجراءات التي توصلت إلى أن إيران انتهكت المعايير الدولية للحصانة الدبلوماسية وأنها تتحمل مسؤولة دوليًا لأنها دعمت وشجعت الطلاب على أخذ رهائن.
3- صدور الحكم في الدعوى
أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها في قضية الرهائن الأمريكيين بالسفارة الأمريكية في طهران وقد تضمنت النقاط التالية:
أ) عمدت المحكمة بأغلبية (13) صوتا مقابل صوتين إلى أن كل منهما قد خالف أحكام الاتفاقيات الدولية ويتحملون المسؤولية.
ب) طلب قضاة هذه المحكمة بالإجماع اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين وتسليمهم لدولة سويسرا وضمان خروج هؤلاء الرهائن من الأراضي الإيرانية وإعادتهم إلى وطنهم.
ج) قضت المحكمة بأغلبية (12) قاضياً ضد أصوات 3 قضاة بدفع إيران تعويضات للولايات المتحدة الأمريكية عن الضرر الذي أحدثته.
د) – قضت المحكمة بأغلبية (14) قاضيا ضد قاض واحد أنها ستحدد مقدار التعويضات المدفوعة.
لكن رغم صدور هذا الحكم لم تلتزم الحكومة الإيرانية به وقبل ذلك رفضت تنفيذ الإجراءات والتحفظ الذي أصدرته المحكمة ولجأت الولايات المتحدة في ذلك الوقت إلى مجلس الأمن وطرحت عليه القضية، ولكن جرت مفاوضات لاحقة بين الحكومتين المعنيتين من خلال الوساطة الجزائرية الذي تمت بموجبه الإفراج عن الرهائن من جهة وسحب جزء من الأصول الإيرانية المجمدة من حيازتها في بنوك الولايات المتحدة والتي قدرت بنحو (13) مليار دولار من جهة أخرى.
القضية الثانية: الخلاف الحدودي بين قطر والبحرين
الخلافات الحدودية هي مواضيع معقدة وشائكة مثل النزاعات المتعلقة بسيادة الدولة على أراضيها وكذلك مرتبطة بكرامة ومكانة الدولة على المستوى الدولي كأي صراع حدود بين دولتين وتفترض وجود ادعاءات متعارضة أو متضاربة بشأن سيادة كل منهما على المناطق الحدودية المتنازع عليها.
يعتبر اللجوء إلى القضاء الدولي طريقة سلمية لحل الأزمات والخلافات الحدودية بين الدول في حال رغبة الدول المتصارعة في إحالة قضايا الخلاف إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي وهو موقف يبدو أنه حل وسط يحكم فيه طرف محايد ممثل من قبل المحكمة الدولية. فمن المؤكد أن لمحاكم التحكيم دورها البارز في تسوية المنازعات الحدودية لما تتمتع به من ثقافة قانونية عالية وكفاءتها.
ولقد شهد تاريخ الدول العديد من الخلافات الحدودية بما في ذلك النزاع القطري البحريني موضوع حديثنا، والتي تدور حول سيادة كل منها على مجموعة جزر من أهمها جزر “حوار والزبارة” وكذلك ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ويعتبر هذا الخلاف الأطول من نوعه والذي مر بمراحل عديدة ومعروفة محاولات كثيرة للتسوية منها مفاوضات ووساطة لكن ذلك لم ينجح فعرض النزاع على القضاء ومحكمة العدل الدولية كهيئة ذات سلطة يمكنها الفصل في مثل هذه النزاعات والوصول إلى الأحكام النهائية الملزمة وفيما يلي بيان تفصيلي بالأسباب والمراحل الرئيسية لتطور هذا النزاع
أولاً: أسباب الصراع ومراحل تطوره
اتسمت العلاقة بين قطر والبحرين بالعداء واندلعت حروب أهلية في كلا البلدين تعود إلى عام 1840 وخاصة البحرين وفي عام 1867 اندلع صراع بين البلدين بعد هجوم البحرين على قطر وانتهت بإبرام معاهدة سلام بينهما بتدخل بريطاني. إلا أن العلاقة بقيت متوترة خاصة بعد مطالبة البحرين بمدينة الزبارة والعديد من الأراضي القطرية وظل الوضع على حاله حتى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين.
وبمناسبة اكتشافات البترول التي قامت بها الشركات الأجنبية وعلى رأسها – شركة بتروليوم – التي تطلبت التعامل مع الدولة المالكة للمنطقة اندلع الصراع مرة أخرى بعد أن تم ضم كل من “فشت الدبل وقطعة ججدة” إلى البحرين بموجب قرار بريطاني، وفي عام 1965 تقدمت قطر بطلب إلى البحرين تضمن حل النزاع وديًا وظل الوضع دون تغيير حتى حصل البلدان على استقلالهما عام 1971 عن بريطانيا.
ثانيًا: جهود الوساطة
شهد منتصف الستينيات أول محاولة لتحويل النزاع الحدودي لمنصة التحكيم الدولي فطالبت قطر بعرض نزاعها الحدودي مع البحرين حول جزر “حوار وقطعة ترسانة”. وكان من الضروري اتخاذ إجراءات لبدء التحكيم، لكن العملية توقفت بسبب رفض البحرين القيام بذلك لكن قطر فعلت.
بعد أن حصلت قطر والبحرين على استقلالهما عن بريطانيا عام 1971 ، حاولت قطر التوصل إلى حل للنزاع مع البحرين من خلال عدة مقترحات، أحدها البحث عن حل لجزيرة المياه الإقليمية للبحرين، بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات تعاون اقتصادي بين البلدين ولم ترد البحرين على أي من مقترحات قطر ما أدى إلى تدخل المملكة العربية السعودية.
استطاعت الوساطة السعودية أن تحقق نوعا من الاستقرار بين البلدين حيث تم الاتفاق تجميد الوضع في الجزر المتنازع عليها بين قطر والبحرين عام 1978. إلا أن إعلان خبراء النفط أن حقل دخان النفطي في قطر وهو أكثر الحقول النفطية ثراءً، قد بدأ يواجه خطر تسرب النفط في التجاويف الطبيعية تحت الأرض إلى جزر حوار أدى إلى اندلاع الصراع من جديد.
استمرت البحرين في مساعيها لضم جزر حوار وإثبات حقوقها السيادية عليها، وصنعت في عام 1982 أولى سفنها البحرية تحت اسم “حوار”، وقامت العديد من المناورات البحرية التي اعتبرها قطر استفادة من اعتداءاتها وانتهاكها لاتفاقية 1978، مما دفع مجلس الوزراء الخليجي إلى إصدار قرار في العام نفسه طالب فيه بمواصلة الجهود السعودية في سعيها لحل الخلاف.
وفي 20 أكتوبر 1984 نفذت البحرين مشروعا ضخما تمثل في بناء مدينة في منطقة فشت بعد ردمها وتم بناء جسر يربط بين البحرين وقطر. ومع ذلك اندلع الصراع من جديد عام 1986، بعد أن اجتاحت القوات القطرية “فشت الدبل” وأعلنتها منطقة محظورة، وهذه المرة بلغ الصراع ذروته بحيث لم يمكن احتواؤه دون تدخل خادم الحرمين الشريفين، وعاد الوضع إلى ما كان عليه.
ثالثاً: عرض النزاع الحدودي بين قطر والبحرين أمام محكمة العدل الدولية
بعد فشل العديد من المحاولات لحل الخلاف (القطري البحريني) في بعض القضايا بالنسبة لترسيم الحدود الإقليمية والبحرية كان الحل الأخير هو عرض النزاع على محكمة العدل
- عقد اختصاص المحكمة
بالإشارة إلى الصراع القطري البحريني نجد أن قطر لجأت إلى محكمة العدل الدولية بطريقة ما منفردة في 8 يوليو 1991 ورفعت دعوى قضائية ضد البحرين مطالبة بتسوية جميع قضايا المنطقة والسيادة البارزة بين البلدين بالإضافة إلى ترسيم الحدود البحرية واستندت قطر في اختصاص المحكمة إلى الرسائل المتبادلة بين المملكة العربية السعودية وقطر والبحرين في ديسمبر 1990 من قبل وزراء خارجية الدول الثلاث.
- الإجراءات المتبعة أمام المحكمة
بعد صدور حكم محكمة العدل الدولية بتاريخ 15/2/1995 المتضمن اختصاصها للنظر في الخلاف القطري البحريني، بدأ الطرفان إجراءاتهما أمام المحكمة ، وقدمت قطر ما يعادل82 وثيقة لدعم موقفها أمام المحكمة ومع ذلك قدمت البحرين استئنافًا رسميًا في 25 سبتمبر 1996، وفيما يتعلق بالمستندات والوثائق تم النظر في مسألة عدم مصداقية المستندات التي قدمتها دولة قطر إلى المحكمة النادرة والمثارة أمام المحكمة.
وبناء عليه طلبت المحكمة من البلدين شرح موقفها – في مذكراتها مكتوب – بخصوص هذا الموضوع ، ردت قطر خطياً بأنها ستتجاهل الاعتماد على هذه الوثائق غير السليمة. كما اعتذرت للمحكمة هي والبحرين عن تقديم هذه الوثائق وتعطلت المحكمة واستمرت الإجراءات كما هي.
- تسوية الخلاف
تعمل محكمة العدل الدولية على إصدار أحكام نهائية غير قابلة للاستئناف وملزمة لأطراف النزاع وكذلك تبرير أحكامهم لإعطائهم القوة الإجبارية وتنفيذ الأطراف لها وهو ما حدث في الحكم الصادر لتسوية النزاع القطري البحريني.
مضمون الحكم وأسبابه
بعد أن قدمت أطراف النزاع في قضية جزر حوار – قطر ضد البحرين – مذكرتهم الخطية والشفوية دخلت محكمة العدل الدولية في أطول مداولات من نوعها واستمر تسع سنوات وفي السادس عشر من الشهر في مارس 2001 أصدرت المحكمة حكمها الشهير والنهائي في قضية النزاع القطري البحريني.
وأُسدل الستار على واحدة من أطول وأصعب القضايا الحدودية التي واجهتها. وصدر مضمون حكم المحكمة في 16 مارس 2001، المتضمن الأول سيادة كل من البلدين على الجزر المتنازع عليها والثاني بترسيم الحدود البحرية بين البلدين
التعليق على الحكم
بعد التطرق لمضمون الحكم والأسس التي استندت إليها محكمة العدل الدولية يتبين أنه استند مع الأخذ في الاعتبار عند النظر إلى الصراع التاريخ المعقد لمنطقة النزاع وجود بعض الوثائق الاتفاقية التي ترقى إلى مستوى الاتفاقيات الدولية الصريحة التي تحدد اختصاص المحكمة للنظر في النزاعات الدولية.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد أيضًا إلى مسألة توافر شرط الموافقة الثنائية لإحالة النزاع إلى المحكمة، حيث يجب أن تكون التعاملات في هذا المجال مرنة حتى تتمكن المحكمة من الوصول إلى أهدافها في تسوية الخلافات التي تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، وهذا ما تم العمل عليه في الصراع القطري البحريني، والهدف من ذلك ألا يتم إضعاف دور محكمة العدل الدولية في البلاد.
الذي يمكن ملاحظته بشأن تنفيذ الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 16 آذار / مارس 2001، فيما يتعلق بالصراع القطري البحريني أنه لا إشكال في تنفيذ، حيث عبر البلدان عن ارتياحهما وقبولهم بالحكم الصادر ووصف بأنه حكم عادل للطرفين حيث استجابت المحكمة في حكمها لمطالب قطر والبحرين.
ومن بوادر الرضا قررت المحكمة إعلان يوم السبت 17/3/2001 عطلة رسمية وهو اليوم التالي لصدور الحكم، ثم أصدر كل من أمير البحرين وأمير قطر مراسيم ببدء الإجراءات التنفيذية على النحو الذي دعا إليه الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ليستأنف عمل اللجنة المشتركة لإعادة الإعمار العلاقات بين البلدين، من خلال مشاريع تنموية مشتركة على جانبي الحدود وعلى رأسها مشروع الجسر الذي يربط بين البلدين حيث قام أمير البحرين بزيارة تهنئة لقطر في 20 مارس بعد ذلك وصدر الحكم وتم التأكيد على إعادة بناء العلاقات الودية والأخوية بين البلدين خلال هذه الزيارة.
كتابة : أميرة سعيد