تطبيقات على قاعدة المطلق يجري على إطلاقه

تطبيقات على قاعدة المطلق يجري على إطلاقه

تُعرف قاعدة المطلق يجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة بأن اللفظ إذا ورد مطلقاً فالأصل أن يبقى على إطلاقه كما ورد، ولا يُقيد بأي قيد معين أو وصف معين، حتى يأتينا دليل يدل على التقييد، وهذا التقييد إما أن يكون جاء بالنص، أو بالدلالة، وقد سبق وأن بَيَّنا تعريف قاعدة المطلق يجري على إطلاقه من خلال مقالنا السابق بشكلٍ أكثر استفاضة، وسوف نتعرف من خلال السطور الآتية على بعضاً من تطبيقات تلك القاعدة في مجال العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية والكفارات، وذلك على النحو الآتي بيانه:

أولًا: تطبيقات على قاعدة المطلق يجري على إطلاقه في العبادات

ثانيًا: تطبيقات على القاعدة في المعاملات

ثالثًا: تطبيقات على القاعدة في الأحوال الشخصية

رابعًا: تطبيقات على القاعدة في الكفارات

من خلال مقالنا هذا سوف نتعرف على التطبيقات الفقهية لقاعدة المطلق يجري على إطلاقه إذا لم يرد نصاً أو دلالة يقيده، فسنذكر بعضاً من تطبيقات تلك القاعدة في العبادات، والمعاملات، وذلك على النحو التالي:

أولًا: تطبيقات على قاعدة المطلق يجري على إطلاقه في العبادات

سنذكر هنا مسألتين تقييد مسح اليدين إلى المرفقين في التيمم، وصدقة الفطر على الرقيق غير المسلم، وذلك من خلال السطور التالية:

1_تقييد مسح اليدين إلى المرفقين في التيمم:

يقول الله تعالى في محكم آيات التنزيل: “وَإِنْ كُنْتُم مَرضَى أَو عَلَى سَفَرٍ أَو جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِط أَو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَمُوا صَعِيداً طَيباً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ”[[1]] فالآية تتحدث عن التيمم كما هو معلوم وتبين أن أعضاء التيمم هما الوجه واليدين، ولكن لفظ الأيدي فيها ورد مطلقاً عن القيد فلم يتبين حد المسح فيها [[2].[

ولكن السنة جاءت بما يقيد ذلك وبينت حد المسح: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين” [[3] [فإن الأيدي هنا جاءت مقيدة إلى المرفقين.

وقد جاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: “إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بها وجهك وكفيك”[[4][

ففي هذا الحديث أيضاً تقييد للمطلق الوارد بالآية الكريمة، ولكن الأيدي جاءت مقيدة إلى الكفين.

وبالنظر لما ورد بالآية الكريمة والأحاديث نجد أن الحكم واحد وهو وجوب المسح، وأيضاً السبب واحد وهو الحدث وإرادة الصلاة، إلا أن التقييد جاء بالحديثين.

لكن نشأ خلاف بين العلماء، لا بسبب اختلافهم في حمل المطلق على المقيد، خاصة وأنهم متفقون على حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب، وإنما خلافهم كان فيما يخص التقييد الذي ورد في الحديثين نظراً لورود قيدين مختلفين.

فهم متفقون أن محل التيمم من الحدث الأصغر والحدث الأكبر هو الوجه واليدين، وأيضاً متفقون على أن مسح اليدين مقيد بحد معين وليس على إطلاقه، ولكن الخلاف كان في حد الأيدي، هل هو نفس الحد الواجب في الوضوء إلى المرافق، أم أن الحد الواجب هو مسح الكفين إلى الرسغين.

وفيما يلي عرضاً لآراء الفقهاء في تلك المسألة:

المذهب الأول: وهو مذهب الحنفية والشافعية، يرى هذا المذهب أن المسح الواجب للأيدي في التيمم هو مسحهما إلى المرفقين[[5]].

المذهب الثاني: وهو مذهب المالكية والحنابلة وهم لا يوجبون المسح إلى المرفقين، بل قالوا إن المسح يكون إلى الرسغين فقط  [[6]]

أدلة المذهب الأول: وهو مذهب الحنفية والشافعية واستدلوا بأن المسح يكون إلى المرفقين بالآتي:

  1. قول النبي صلى الله عليه وسلم ” التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين[[7]].

وجه الدلالة: أن لفظ المرفقين مقيد لمطلق اليدين الوارد في آية التيمم فالحديث إذن صح عندهم وجعلوه مقيداً للآية.

  1. قالوا إن لفظ اليدين يصدق إطلاقه على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة، وحمل ما أطلق هنا في آية التيمم، على ما قيد في آية الوضوء أولى بجامع الطهور [[8]].

أدلة المذهب الثاني: القائلين بمسح اليدين إلى الرسغين في التيمم وهم المالكية والحنابلة:

استدلوا بما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث قال: ” أجنبت فتمعكت في الصعيد وصليت، وذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه” [[9]]

وجه الدلالة:

أن حديث عمار مقيداً المطلق الآية وقد بين أن المسح للكفين فقط. وقالوا إن ما يعزز ذلك أن اليد المجملة في آية التيمم تحمل على آية السرقة والتي حددتها السنة بالكف فقط [[10]].

وقالوا إن جميع الأحاديث الواردة عن ابن عمر والتي تفيد أن حد مسح اليدين في التيمم إلى المرفقين ضعيفة لا ترقى إلى الصلاح في الاحتجاج، فجميعها مضطربة في السند [[11]].

2_ صدقة الفطر على الرقيق غير المسلم

شرع الله زكاة الفطر وفرضها على كل مسلم ومسلمة، وقد ورد ذلك بالسنة النبوية الشريفة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال ” فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان على كل صغير وكبير حر وعبد ذكر وأنثى صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير” [[12]].

وفي رواية أخرى، قال: ” فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة” [[13]].

نلاحظ من خلال الحديثين السلافي الذكر، أن لفظ العبد في الحديث الأول ورد مطلقاً دون تقييد، في حين أن الحديث الثاني قد قيد صدقة العبد بإسلامه.

ومن هنا فقد نشأ الخلاف بين الفقهاء ويرجع سبب هذا الخلاف إلى تضمين الحديث الثاني لفظ ” من المسلمين”، وكذلك اختلافهم في حمل المطلق على المقيد في حال كان الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، فالحنفية لا يرون الحمل في مثل تلك الحالة.

فاتفق الفقهاء على وجوب صدقة الفطر على كل مسلم صغير أم كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، واختلفوا فقط في وجوبها على الرقيق غير المسلم، على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو مذهب الحنفية ويرى وجوب زكاة الفطر على الرقيق مطلقاً سواء كان كافراً أو مسلماً. وهم بذلك يوافقون مذهبهم القاضي بعدم حمل المطلق على المقيد في حال اختلاف السبب [[14]].

المذهب الثاني:

وهو مذهب الجمهور “الشافعي ومالك وأحمد” وعمدوا إلى تقييد المطلق بالمقيد، فقالوا إن صدقة الفطر لا تجب على العبد الكافر، بل على الرقيق المسلم فقط وهم بذلك يوافقون مذهبهم القاضي بحمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب [[15]].

أدلة المذهب الأول:

استدل الحنفية على وجوب زكاة الفطر عن الرقيق مطلقاً مسلماً أو كافراً بحديث ابن عمر السالف البيان.

وجه الدلالة

أن الحديث مطلق ولم يقيد العبد بكونه مسلماً، ولم يقولوا بالأخذ بالقيد الوارد في الحديث الآخر الوارد في نفس الموضوع حيث فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد الحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين [[16]].

وقالوا إن الإطلاق والتقييد واردين على سبب الحكم، ولا مزاحمة عندهم في الأسباب، إذ يمكن أن يكون للحكم الواحد عدة أسباب كالملك يحصل بالإرث وبالهبة ونحوها، فإذا انتفت المزاحمة وجب العمل بالدليلين لعدم وجود تعارض بينهما فيكون وجود النفس سبباً في وجوب صدقة الفطر سواء كانت هذه النفس مسلمة أو غير مسلمة [[17]].

أدلة المذهب الثاني:

ذهب أصحاب هذا الرأي وهم الشافعي مالك وأحمد، إلى أن زكاة الفطر تجب على السيد في عبيده المسلمين فقط، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر قال: ” فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة [[18]] .

وجه الدلالة:

قالوا إن الحديث هنا مقيد للحديث الأول المطلق، الحكم فيهما واحد وهو وجوب زكاة الفطر والسبب واحد وهو وجود نفس بكونها الصائم، والموضوع واحد وهو زكاة الفطر فيحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال فتكون زكاة الفطر واجبة في حق الرقيق المسلم فقط.

الترجيح:

بعد طرحنا لأقوال الفقهاء وأدلتها في مسألة زكاة الفطر على الرقيق، فإننا نميل إلى ترجيح المذهب القاضي بوجوبها في حق الرقيق المسلم فقط [[19]].

مسوغات الترجيح:

  • أن الحديث القاضي بإيجاب الصدقة على الرقيق المسلم فقط حديث صحيح مثبت في صحيح البخاري، ويصح أن يكون مقيداً للحديث المطلق. حيث إن السنة تعد شارحة موضحة لبعضها البعض فيعد الحديث المقيد شارحاً موضحاً للحديث المطلق.
  • أن زكاة الفطر جعلت طهوراً للصيام، والطهور لا يكون إلا للمسلمين [[20]].

ثانيًا: تطبيقات على القاعدة في المعاملات

سنذكر منها مسألة بيع الدراهم بالدنانير كالتالي:

 بيع الدراهم بالدنانير:

قال الله تعالى ” وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” [[21]].

تُحَرِّم الآية الكريمة البيع وتُحَرم الربا، وأيضاً فبيع الذهب والفضة في أصلها الحل، وكذا المقايضة، فيدخلان ضمن الأصناف الربوية وبيعهما منضبط بشروط.

فقد روي عن النبي أنه قال “لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواءً بسواء، والفضة بالفضة إلا سواءً بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم إذا كان يداً بيد” [[22]]

وأيضاً ما ورد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواء وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا” [[23].[

فالحديثان يُبَيِّنان جواز بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب بشكل مطلق دون أي قيد إلا أنه قد ورد حديث آخر مقيد لهذا الإطلاق، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال “كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله إني أريد أن أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء ” [[24]].

وهناك رواية أخرى لابن عمر وقد جاء فيها: “كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته، فأخذت بثوبه، فسألته فقال: إذا أخذت واحداً منها بالآخر فلا يفارقك وبينك وبينه بيع” [[25]].

نستبين مما سلف أن الأحاديث جميعها قد اتحدت في السبب والحكم وهو جواز بيع الذهب بالفضة، والسبب هو عدم التضييق على الناس، ولكن التقييد قد ورد بأحد الحديثين والذي اشترط لجوازه أن يكون بسعر اليوم وألا يفارقا مجلس العقد، والحديث الأخير قيد المسألة بالتقابض في مجلس العقد فقط.

وقد نشأ خلاف بين الفقهاء فيما يخص اشتراط سعر اليوم، وذلك على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو مذهب الحنابلة وقد اشترطوا الاقتضاء بسعر اليوم إضافة إلى شرط التقبض [[26]].

وقال ابن القيم “يجوز ذلك بشرطين أحدهما أن يأخذ بسعر يوم الصرف [[27]].وكان ذلك بتقييد الإطلاق الذي جاء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ” وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم إذا كان يداً بيد” بالقيد الوارد بحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي قال فيه ” كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله إني أريد أن أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء.

المذهب الثاني:

وهو مذهب الجمهور” الشافعية والمالكية والحنفية” وقد راو عدم الأخذ بالقيد الوارد بحديث ابن عمر، وأنه لا يُشترط سعر اليوم.

دليل المذهب الأول:

فرق الحنابلة بين الصرف وهو بيع النقد بالنقد، وبين الاقتضاء، فأجازوا في الصرف عدم التقييد بسعر معين عند اختلاف الجنس لأن البيع يكون عن تراضٍ، أما في اقتضاء النقد عن نقد آخر فاشترطوا أن يكون بسعر اليوم عملاً بحديث ابن عمر، ولفئلا يربح فيما لم يضمن [[28]].

دليل المذهب الثاني:

استدل أصحاب هذا الرأي بالأحاديث التي قضت بجواز بيع الذهب بالفضة دون اشتراط الاقتضاء بسعر اليوم.

فإذا كان اشتراط الاقتضاء بسعر اليوم على سبيل الإيجاب، لورد في جميع الأحاديث، لذا فأخذوا الأمر على الاستحباب، لعدم الجزم بإيجاب اشتراطه.

وسوف نجمل من خلال مقالٍ لاحق تطبيقات القاعدة في الأحوال الشخصية والكفارات.

ثالثًا: تطبيقات على القاعدة في الأحوال الشخصية

سنذكر منها مسألة اشتراط العدالة في شهود النكاح، وذلك على النحو التالي:

اشتراط العدالة في شهود النكاح:

تم ذكر الإشارة إلى الشهادة في مواضع كثيرة، نظراً لأهميتها القصوى في الإثبات، فقال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز “وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ”[[29]]، وقال تعالى أيضا “وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ”[[30]].

ونلاحظ من خلال هاتان الآيتان، أن لفظ الشهادة جاء مطلقاً من أي قيد، ولكن القيد ورد في قوله تعالى “وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكم”[[31]].

وسوف نتناول فقط مسألة الشهادة في النكاح، والتي ورد بها قيد العدالة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ” لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل” [[32]].

نلاحظ أن الآيات السابقة جميعها تتحدث عن نفس الموضوع وهو الشهادة، ونجد أن الحكم واحد، وتعددت الأسباب، فاختلف الفقهاء فيمن حيث هل يبقى المطلق على إطلاقه دون الأخذ بالقيد الوارد، أم يحمل المطلق على المقيد فيشترط العدالة في شهود النكاح، وذلك على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو مذهب الشافعية والإمام أحمد في أحد قوليه [[33]] ،حيث اشترطوا العدالة في الشهادة على النكاح [[34][.

أدلة هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا الرأي بالآتي:

  • قول الحق تبارك وتعالى: “وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ منكم” [[35]].

وجه الدلالة من الآية الكريمة:

أن الله عز وجل اشترط العدالة في الشهود في هذه الآية على الرجعة[[36]].

حيث إن الرجعة ليست أعلى شأناً من النكاح، فشرط العدالة في الرجعة يجعلها في النكاح أولى.

  • استدلوا من السنة النبوية المطهرة: بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ” لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل”[[37]].

وجه الدلالة من الحديث:

أن الحديث جاء ليقيد الإطلاق الوارد بالآية، فاشترط العدل في الشهادة.

المذهب الثاني:

وهو مذهب أبو حنيفة، وذهب إلى عدم اشتراط العدالة في شهود النكاح[[38][.

أدلة هذا المذهب:

أولاً: قالوا إن أدلة النكاح مطلقة لم تقيد بقيد، وأن الشروط اللازم توافرها في الشهادة ثبتت بالدليل، فمن اشترط العدالة في شاهدي النكاح فعليه الدليل[[39]].

ثانياً: قالوا إن الفاسق أهل لأن يزوج نفسه ولا يقدح في أهليته كونه فاسقاً فإذا صحت ولايته فمن باب أولى أن تصح شهادته[[40]].

رابعًا: تطبيقات على القاعدة في الكفارات

سوف نتحدث من خلال السطور التالية عن التقييد بالتتابع في قضاء صيام رمضان ولتوضيح تلك المسألة بشكل مفصل إلينا التفصيل الآتي:

التقييد بالتتابع في قضاء صيام رمضان:

قال الله تعالى في كتابه العزيز “يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتَبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أِخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ”[[41]].

تدل الآية الكريمة على وجوب صوم رمضان على كل المؤمنين أما من أفطر لعذر شرعي كالمرض ونحوه فعليه القضاء، ومن لم يطق القضاء فعليه الفدية، وهي إطعام مسكين، ومن أراد الزيادة في الإطعام فهو زيادة في الخير له، مع العلم بأن الصوم أفضل لمن يطيق ويتحمل المشقة[[42]].

هذا الإطلاق ورد مقيداً بالتتابع في كفارة القتل الخطأ فقال تعالى “فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ” [[43]]. وأيضاً في صيام كفارة الظهار، حيث قال الله تعالى “فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا” [[44]].

نستبين مما سلف اتحاد الحكم، وهو وجوب القضاء، ولكن يوجد اختلاف في السبب فمنها القضاء في قضاء صوم رمضان، ومنها كفارة اليمين، وغيرها في الظهار، وقد نشأ الخلاف بين الفقهاء في مسألة حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب وذلك على مذهبين:

المذهب الأول:

وهو مذهب الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية ولم يشترطوا التتابع في الصيام، بل قالوا إن المكلف مخيراً بين التتابع والتفريق [[45]].

أدلة المذهب الأول:

استدلوا بقول الله تعالى “فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ”[[46]].

وجه الدلالة:

  1. أن القضاء الوارد في الآية مطلق وغير مقيد بتتابع أو تفريق، فيجب العمل به على إطلاقه، فلو صام المكلف متتابعاً أو متفرقاً، فقد قضى ما عليه [[47]].
  2. أن حمل المطلق على المقيد يؤدي إلى إبطال عمل المطلق في حين عدم الحمل لا يؤدي إلى إبطال شيء، فكان عدم الحمل أولى [[48]].
  3. استدلوا أيضاً بقول ابن عباس رضي الله عنه الذي قال “لا بأس أن يفرق لقول الله تعالى “فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ”[[49]].
  4. استدلوا أيضاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم “أنه سُئل عن تقطيع قضاء رمضان فقال لو كان على أحدكم دين، فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين، هل كان ذلك قاضياً دينه؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم [[50]].

المذهب الثاني:

وهو قول لأبي حنيفة حيث اشترط التتابع في قضاء رمضان [[51]]. مخالفاً بذلك مذهبه القاضي بعدم حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب.

أدلة المذهب الثاني:

استدلوا بقول الحق تبارك وتعالى “فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ”

وجه الدلالة:

  1. أن النص يحتمل التتابع والتفريق، والقياس يقتضي التتابع إلحاقاً لصفة القضاء بصفة الأداء، فإن الله عز وجل قد أمرنا بصوم رمضان متتابعاً، فيكون القضاء متتابع بالضرورة [[52]].
  2. أن المطلق ساكت عن القيد، والسكوت عدم، والمقيد ناطق، والناطق أولى بالعمل، وإن لم يعمل بهذا القيد أصبح لاغياً ولا فائدة من ذكره، كما أن العمل بالمقيد يطال العمل بالمطلق، فيكون العامل بالمقيد عاملاً بالمطلق [[53]].
  3. حديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت إن الآية ” “فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ” متتابعات [[54]].

ما ذُكره النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه” [[55]]

كتابة : نسمة مجدي

[1] سورة المائدة: آية 6

[2] مختصر تفسير ابن كثير 1/243.

[3] سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب التيمم 1/180 حديث رقم 16، وسبل السلام 1/130 وقال الصنعاني صحح الأئمة وقفه على ابن عمر وقال أصح ما ورد في التيمم حديث عمار الذي كان يفتي به بعد موت النبي.

[4] صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب التيمم 2/290 حديث رقم 553.

[5] المبسوط للسرخسي، 1/ 107، الأحكام: لابن دقيق العبد، 1/151.

[6] الظهيرة: للقرافي، 1/353؛ المغني: لابن قدامة، 1/ 244، بداية المجتهد: لابن رشد، 1/86.

[7] سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب التيمم 1/180 حديث رقم 16.

[8] مختصر تفسير ابن كثير 1/243.

[9] صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم ضربه 1/455، حديث رقم 347؛ صحيح مسلم، كتاب الحيض 28، باب التيمم 1/280، حديث 368.

[10] الذخيرة: للقرافي 1/353، المغني: لابن قدامة، 1/244، بداية المجتهد: لابن رشد 1/ 68.

[11] الجامع لأحكام الصلاة: لمحمود عويضة، 2/13.

[12] سنن النسائي الصغرى، كتاب الزكاة، باب فرض زكاة رمضان على الصغير 8/245، حديث رقم 2455، صححه الألباني

[13] صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين 5/370، حديث رقم 1408.

[14] أصول السرخسي، 1/269، كشف الأسرار: للبخاري، 2/ 507.

[15] الأم: للشافعي، 2/84، الحاوي الكبير: للماوردي، 3/358، المدونة الكبرى، 1/ 392، المغني: لابن قدامة،4/295.

[16] سبق تخريجه ص 66

[17] كشف الأسرار: للبخاري، 2/507.

[18] سبق تخريجه ص66.

[19] اللام: الشافعي 2/84، الحاوي الكبير: للماوردي، 3/358.

[20] الأم: للشافعي، 2/84.

[21] سورة البقرة: آية ٢٧٥.

[23] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالورق يداً بيد 14/240، حديث رقم 4599.

[24] سنن النسائي، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة 7/281 حديث رقم 4582.

[25] مسند أحمد، مسند عبدالله بن عمر 12/212 رقم 5684.

[26] المغني: لابن قدامة 4/187، حاشية ابن القيم على سنن أبى داود 9/297، كشف القناع: للبهوتين 3/265.

[27] حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 9/297.

[28] حاشية ابن القيم 9/297.

[29] سورة البقرة: آية ٢٨٢.

[30] سورة البقرة: آية ٢٨٢.

[31] سورة الطلاق: آية ٢.

[32] سنن الدارقطني

[33] المجموع: للنووي، ١٧/ ٣٥٩.

[34] بدائع الصنائع: للكاساني، ٢/٢٥٥.

[35] سورة الطلاق: آية ٢.

[36] مختصر تفسير ابن كثير، ٣/٣٣٠.

[37] سبق تخريجه ص ٧٩.

[38] الأشباه والنظائر: لابن نجيم ١/٩٩.

[39] الهداية شرح البداية: للمرغناني، ٤/٤٩٥.

[40] المرجع السابق.

[41] سورة البقرة: آية ١٨٣-١٨٤.

[42] مختصر تفسير ابن كثير، ١/٩٥.

[43] سورة النساء: آية ٩٢.

[44] سورة المجادلة: آية ٤.

[45] الحادي الكبير: للماوردي، ٣/٤٥٤؛ المدونة الكبرى: للإمام مالك، ١/٢١٣، بدائع الصنائع: للكاساني ٥/١١١، الوسيط في المذهب: الغزالي ٢/ ٦٢٤.

[46] سورة البقرة: آية ١٨٤.

[47] المبسوط: للسرخسي، ٣/٧٥ ؛ الحادي الكبير: الماوردي ٣/٤٥٤.

[48] كشف الأسرار: البخاري ٢/٤٢٩، شرح التلويح على التوضيح: للتفتازاني ١/١١٧.

[49] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب متى يقضي قضاء رمضان ١/٦٨٨، حديث رقم ١٨٤٨.

[50] السنن الكبرى: للبيهقي، كتاب الصوم، باب من قالوا في تفريق رمضان ٤/٢٥٩،حديث ٨٠٣٢.

[51] بدائع الصنائع: للكاساني ٤/١٤٠.

[52] بدائع الصنائع: للكاساني، ٤/١٤٠.

[53] كشف الأسرار: لعبد العزيز البخاري ٢/٤٢٩.

[54] سنن البيهقي، كتاب الصوم، باب قضاء رمضان إن شاء متتابعات وإن شاء متفرقان ٤/٢٥٨، حديث ٨٠٤٣.

[55] سنن الدارقطني، كتاب الصوم، باب القبلة للصائم ٢/١٩١، حديث ٥٧.

error: Alert: Content is protected !!