الركن المعنوي للجريمة

الركن المعنوي للجريمة

حتى يكتمل البنيان القانوني للجريمة لا بد من أن يتوافر لها كافة أركانها والمتمثلة في الركن الشرعي والمادي والمعنوي، والركن المعنوي يعبر عن الصلة النفسية بين الفاعل والفعل المرتكب والذي يُعد سبباً لتحقق النتيجة الإجرامية، ومن ثم فلا يكفي لمسألة الفاعل أن يرتكب – فقط – ماديات الجريمة وإنما لا بد أن تكون لديه إرادة في إتيان تلك الأفعال المجرمة.

أولاً: ماهية الركن المعنوي:

ثانياً: عناصر الركن المعنوي:

ثالثاً: أنواع القصد الجنائي:

رابعاً: الدافع على الجريمة:

خامساً: النصوص القانونية المتعلقة بالركن المعنوي للجريمة:

سادساً: بعض اجتهادات محكمة التمييز بشأن الركن المعنوي للجريمة:

أولاً: ماهية الركن المعنوي:

عادة ما يعزف المشرع عن تعريف الركن المعنوي تاركاً تلك المهمة للفقه الذي يضطلع بإماطة اللثام عن مفهوم هذا الركن، ولقد عني الفقه الحديث ببلورة الركن المعنوي وتحديد نطاقه واستجلاء مضمونه بمقولة أن الأشخاص يسألون ويعاقبون ليس فقط لأنهم “فعلوا”، بل لأنهم “أخطأوا”[1].

ومن ثم فلا يكفي لمسألة الفاعل أن يكون قد ارتكب ماديات الجريمة فقط، وإنما لا بد من أن يتوافر لديه قدر من الخطأ أو الإثم، حيث إن المسئولية الجنائية للفاعل ترتكز على إتيان السلوك الذي يعتبر سبباً في حدوث النتيجة المجرمة، فضلاً عن ضرورة توافر صلة نفسية بين الفاعل وبين النتيجة.

ويترتب على ذلك أن الجريمة تنتفي عن كل من يتسبب في إحداث النتيجة المجرمة دون أن تتجه إرادته إلى ذلك، كمن يجبر إجباراً مادياً على إتيان فعل مجرم دون أن تكون له أدنى إرادة في ذلك.

ولذلك يعرف المشرع الأردني النية الإجرامية بمقتضى (المادة 63) من قانون العقوبات بأنها: (هي إرادة ارتكاب الجريمة على ما عرفها القانون).

ثانياً: عناصر الركن المعنوي:

للركن المعنوي عناصر أربع لا يتحقق بدونها، ولكن قبل البدء في تفصيل تلك العناصر لا بد أولاً أن نشير إلى أن تلك العناصر تتوافر في كافة صور الركن المعنوي للجريمة سواء كان متخذاً صورة القصد الجنائي الذي يبلغ حد اليقين أو القصد الاحتمالي الذي يأتي في مرحلة أدنى من اليقين أو في صورة الخطأ الذي يعبر عنه بدرجة الإمكان.

1- إرادة النشاط المكون للركن المادي:

فحتى يعاقب الفاعل لا بد أن يكون الفعل المرتكب ناتجاً عن إرادة حرة من قبل الجاني بحيث لو انتفت تلك الإرادة لأدى ذلك إلى انتفاء الجريمة، وقد تنتفي الإرادة لعدة عوامل كما لو كان انتفاؤها ناتجاً عن قوة قاهرة متمثلة في فعل الطبيعة، وذلك كمن يسقط على طفل بتأثير الرياح الشديدة فيرديه قتيلاً، ففي هذه الحالة لا يسأل الفاعل عن ثمة جرم إطلاقاً ولا حتى عن جريمة قتل خطأ لانتفاء الركن المعنوي كلية.

2- العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة:

فجيب أن يكون الفاعل على علم بالعناصر الجوهرية التي يترتب عليها قيام الجريمة، فلو افترضنا أننا بصد جريمة قتل – مثلاً – فيجب أن يكون القاتل على علم بأن فعله يقع على إنسان حي، مما يترتب عليه انتفاء الجرم عن من يتسبب في قتل إنسان كان يعتقد أنه فارق الحياة، كما لو أن طبيب المشرحة قام بتشريح الجثة ثم تبين بعد ذلك أن الوفاة نتجت عن التشريح وأن المجني عليه كان في غيبوبة ولم يكن مفارقاً للحياة، ففي هذه الحالة لا يمكن أن يسأل الطبيب عن جريمة قتل عمد لانتفاء علمه بأحد عناصر الجريمة الجوهرية وهى صفة الحياة في المجني عليه.

ولا يهم بعد ذلك أن يكون الجاني عالماً بالعناصر القانونية من عدمه، فجهل الجاني بالعناصر القانونية لا يقدح في قيام البنيان القانوني للجريمة، وذات الحكم ينطبق على الجهل بالعناصر الثانوية كمن يخطئ في شخصية المجني عليه فيقتل شخصاً مغايراً للمقصود قتله، ففي هذه الحالة لا يتأثر الحكم القانوني بكون الجاني مرتكباً لجريمة قتل عمد.

أ- الغلط في المحل:

الغلط في عنصر جوهري:

محل الجريمة يُعد من أحد عناصرها الجوهرية التي يتعين أن يكون الجاني عالماً به، فإذا حدث غلط لدى الفاعل في محل الجريمة فلا يمكن أن تُنسب إليه جريمة، وذلك كمن يستولى على مال كان يعتقد أنه مملوكاً له نظراً لوجه الشبه بينه وبين الشيء الذي يملكه ثم يتبين أنه مملوك لشخص آخر، ففي هذه الحالة لا يمكن أن ينسب إلى الفاعل جريمة سرقة نظراً لأنه كان يجهل أن فعله واقعاً على مال مملوك للغير والذي يعد عنصراً جوهري في جريمة السرقة.

وذات الحكم ينطبق على من يطلق النار بقصد التدريب فيصيب شخصاً تواجد بالخطأ في مرمى إطلاق النار، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأن فعله يشكل جريمة قتل عمد لانتفاء علمه بأن فعله واقع على إنسان حي.

الغلط في عنصر غير جوهري:

أما إذا كان الغلط واقع على عنصر غير جوهري فلا يؤثر ذلك في قيام الجريمة، ومن أمثلة العناصر غير الجوهرية شخصية المجني عليه في جريمتي القتل والإيذاء، وبناء على ذلك فإن من يطلق النار على غريمه قاصداً قتله في ليلة مظلمة ثم يتبين أنه أطلق النار على شخص آخر فإن ذلك لا يؤثر في وصف الفعل القانوني بأنه قتل عمد.

وهذا ما يؤكده المشرع الأردني بموجب (المادة 66) من قانون العقوبات بأن: (إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها، عوقب الفاعل كما لو كان اقترف الفعل بحق من كان يقصد).

والأمر ذاته ينطبق على من بيت النية لسرقة غريمه فتسلل إلى منزله وسرق أموال تبين أنها مملوكه لشخص آخر، فإن جريمة السرقة في هذه الحالة تكون مكتملة الأركان ولا عبرة بالغلط الواقع على شخصية مالك الأموال محل الجريمة.

ب- الغلط في السببية:

يعني الغلط في السببية أن يحدث غلط في التسلسل السببي الذي يترتب عليه حدوث النتيجة، كمن يحاول قتل غريمه بإغراقه بإلقائه في المياه ثم يتضح أنه لقى مصرعه نتيجة ارتطام رأسه بصخرة مما أدى ذلك إلى وفاته.

وهذه الحالة يطلق عليها ” السببية المطلقة ” والتي تعني أن المشرع عاقب على الفعل بغض النظر عن وسية إتيانه، ومن ثم يكون الغلط فيها غير مؤثر ولا يمنع من قيام الجريمة.

إلا أن هناك ما يعرف ” بالسببية النسبية ” حيث اشترط المشرع فيها استخدام وسيلة بعينها لقيام الجريمة وذلك مثل القتل بالسم في القانون المصري، حيث إن استخدام السم في القتل يُعد سبباً مشدداً للعقاب في القانون المصري وذلك استناداً إلى ما جاء (بالمادة 233) من قانون العقوبات بنصها على أن: ( من قتل أحدا عمدا بجواهر يتسبب عنها الموت عاجلا أو آجلا يعد قاتلا بالسم أيا كانت كيفية استعمال تلك الجواهر ويعاقب بالإعدام).

فحدوث الغلط في السببية النسبية يترتب عليه انتفاء قيام الجريمة، كمن تقدم لزوجها شراباً وتضع به سم اعتقاداً منها أنه سكر مما يترتب عليه وفاة المجني عليه، فهذه السيدة لا ينسب إليها جريمة قتل بالسم.

ج- الغلط في النتيجة:

النتيجة هي المصلحة القانونية التي يضفي القانون الجنائي حمايته عليها، وقد يتحقق الغلط في النتيجة في الفروض التالية:

الفرض الأول: الغلط الناشئ عن التماثل في محل العدوان:

وذلك كمن يقصد إيذاء أو قتل شخص معين فيحيد عن هدفه ويقتل شخصاً غيره، ونظراً لتماثل المصلحة محل الحماية فإن هذا الغلط لا يؤثر في البنيان القانوني للجريمة.

وهذا ما تؤكده محكمة النقض المصرية في حكمها رقم ١٠٣٤ لسنة ٢٨ قضائية الصادر عام 1958 والتي قضت فيه بأن: (إذا تحدث الحكم عن نية القتل واستظهارها في قوله “إن نية القتل ثابتة لدى المتهم من إقدامه على إطلاق عيار على المجني عليه الأول من سلاح ناري [ فرد ] محشو بالمقذوف صوب إليه نحو قلبه وهو سلاح قاتل بطبيعته مما تستخلص منه المحكمة أن ذلك المتهم إنما أطلق العيار على هذا المجني عليه بقصد قتله وإزهاق روحه، ولا يغير من الرأي شيئاً أن العيار أخطأه وأصاب المقذوف شخصاً آخر فإن المتهم في هذه الحالة يتحمل كذلك مسئولية جريمة الشروع في قتل هذا المجني عليه الثاني أيضاً طالما أنه حين أطلق العيار على المجني عليه الأول إنما كان يقصد قتله وإزهاق روحه، فقصد القتل وإزهاق الروح ثابت لدى المتهم بالنسبة للمجني عليهما الاثنين كليهما “فإن ما قاله الحكم من ذلك يكون سائغاً في استخلاص نية القتل العمد لدى المتهم وصحيحاً في القانون).

الفرض الثاني: الغلط الناشئ عن تباين محل العدوان:

وذلك كمن يريد أن يرتكب فعل معين إلا أن سلوكه ينحرف إلى إحداث نتيجة أخرى، كمن يحاول إشعال النيران في منزل غريمه فيلقي به بكرة من النار فيترتب على ذلك إضرام النار بالمنزل ووفاة غريمه الذي كان متواجداً بالمنزل.

والراجح فقهاً في هذه المسألة أن الغلط الذي ينشأ عن تباين محل العدوان لا يحول دون توافر الركن المعنوي لدى الجاني الذي ينسب إليه ارتكاب جريمتين إحداهما عمدية وهي التي كان يقصدها، والأخرى غير عمدية والتي نتجت عن انحراف سلوكه.

والسؤال الآن هل عدم تحقق النتيجة يترتب عليه نفي الجريمة؟

أجاب المشرع الأردني على هذا التساؤل بموجب (المادة 65) من قانون العقوبات بنصها على أن: (لا عبرة للنتيجة إذا كان القصد أن يؤدي إليها ارتكاب فعل، إلا إذا ورد نص صريح على أن نية الوصول إلى تلك النتيجة تؤلف عنصرا من عناصر الجرم الذي يتكون كله أو بعضه من ذلك الفعل).

ومن ثم فإن الأصل العام أن عدم تحقق النتيجة لا يترتب عليه انتفاء مسئولية الجاني، ولذلك من يطلق النار على غريمه قاصداً قتله، ولكن استطاع الأطباء إسعاف المجني عليه فإن الجاني في هذه الحالة سيعاقب على الشروع في قتل المجني عليه.

ولكن في بعض الحالات الأخرى لا تتحقق الجريمة إلا بحدوث النتيجة المجرمة قانوناً، وذلك كما في حالة جريمة الإجهاض في القانون المصري الذي لا يعترف بمجرد الشروع فيها وإنما يتطلب لها حدوث الإجهاض بالفعل، فإن عجز فعل الجاني عن تحقيق النتيجة فلا يسأل عن جريمة إجهاض ولا شروع فيها.

الفرض الثالث: الغلط في العناصر العرضية الجوهرية المعتبرة ظروفاً مشددة:

حيث إنه في بعض الجرائم يتطلب المشرع العلم ببعض الأمور حتى تقوم الجريمة، وذلك مثلا كضرورة توافر العلم بأن المرأة حامل حتى ينسب إلى الجاني جريمة إجهاض، ومن ثم فمن يعتدي على أمرأه لا يعلم أنها حامل ويترتب على ذلك إجهاضها فلا يسأل عن جريمة إجهاض لجهله بأن المرأة حامل.

وهذا ما تؤكده (المادة 86/2) من قانون العقوبات بنصها على أن: (إذا وقع الغلط على أحد الظروف المشددة لا يكون المجرم مسؤولا عن هذا الظرف).

د- الغلط في القانون:

الغلط في القانون الجنائي:

بادئ ذي بدء نشير إلى أن الغلط في القانون الجنائي لا ينفي الجريمة عن الفاعل، فلا يقبل من الجاني دفاعه بأنه كان يجهل أن فعله مجرم وقت إتيانه – سواء كان الفاعل وطني أو أجنبي –وبناء على ذلك فإنه من يقدم مسكر لشخص لم يتخط الثماني عشر من عمره فإنه يكون بذلك واقعاً تحت طائلة القانون الجنائي حتى ولو كان يجهل بأن هذا الفعل مجرم.

وهذا ما تؤكده محكمة النقض المصرية في حكمها رقم ٢٢١٣٨ لسنة ٨٨ قضائية الصادر عام 2019 والتي قضت فيه بأن (لما كان الحكم المطعون فيه قد عرض للدفع بانتفاء القصد الجنائي في حقه وجهله بقانون الجهاز المصرفي والنقد واطرحه في رد سائغ، لما كان ذلك ، وكانت الجريمة – حمل حال سفره من البلاد أوراق نقد أجنبي جاوزت قيمتها عشرة آلاف دولار أمريكي – التي دين الطاعن بها من الجرائم العمدية.

 ولم يستلزم القانون لهذه الجريمة قصدًا خاصًا بل يكفي لقيامها توافر القصد الجنائي العام والذي يقتضي تعمد اقتراف الفعل المادي وتعمد النتيجة المترتبة على هذا الفعل، وكان ما أثبته الحكم عن واقعة الدعوى وفي رده على ذلك الدفع كافيًا في الدلالة على توافر القصد الجنائي لدى الطاعن، فإن ما يثيره في خصوص انتفاء هذا القصد لديه بدعوى الجهل بالواقعة – محل التجريم – لا يعدو أن يكون مجرد اعتقاد خاطئ بمشروعية الواقعة وعدم فهمه للقانون وهو في حقيقته دفع بالاعتذار بالجهل بالقانون وهو ما لا يقبل منه ، لما هو مقرر من أن الجهل بالقانون أو الغلط في فهم نصوصه لا ينفي القصد الجنائي باعتبار أن العلم بالقانون العقابي وفهمه على وجهه الصحيح أمر مفترض في الناس كافة وإن كان هذا الافتراض يخالف الواقع في كثير من الأحيان إلا أنه افتراض تمليه الدواعي العملية لحماية مصلحة المجموع .

وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافة ، ومن ثم فلا يقبل الدفع بالجهل أو الغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي ويضحى منعي الطاعن في هذا الصدد غير مقبول).

ويؤكد ذلك – أيضاً – ما ورد (بالمادة 32/2) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 2002 والتي نصت على أن: (لا يشكل الغلط في القانون من حيث ما إذا كان نوع معين من أنواع السلوك يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة سببا لامتناع المسؤولية الجنائية).

الغلط في غير القانون الجنائي:

أما إذا كان الغلط واقعاً على أحكام قانون أخر غير قانون العقوبات فإن ذلك يكون له دور في نفي الركن المعنوي للفاعل، ويترتب على ذلك أن الزوج الذي يجهل قواعد الأحوال الشخصية المتعلقة بالطلاق والتي تبقي رباط الزوجية قائماً على الرغم من الطلاق الرجعي حتى تنقضي فترة العدة لا يتوافر لديه القصد الجنائي إذا ارتكب فعل الزنا معتقداً أن صفة الزوجية قد زالت عنه بالطلاق الرجعي[2].

3- العلم بصلاحية النشاط لإحداث النتيجة:

يجب أن يكون الجاني عالماً بصلاحية نشاطه لإحداث النتيجة المجرمة قانوناً، فمثلاً من يطلق النار من مكان قريب على غريبة صوب منطقة قاتلة بجسده يتوافر لديه علم بصلاحية نشاطه لإحداث الوفاة.

أما من يحاول أن يمزح مع أحد أقرانه فيصوب نحوه بسلاح كان يعتقد أنه غير حقيقي فإذا به يكتشف بعد ذلك أن السلاح قد تم تبديله وأنه استخدم سلاح حقيقي ففي هذه الحالة لا يمكن أن ينسب إليه جريمة قتل عمد نظراً لجهله بصلاحية هذا السلوك لإحداث النتيجة.

4- توافر موقف نفسي للفاعل إزاء النتيجة ” النية “:

لن يكتمل البينان القانوني للجريمة إلا إذا اتجهت نية الجاني إلى إحداث النتيجة المحظورة قانوناً، حيث لا جريمة على من يجبر على إحداث نتيجة مجرمة قانوناً وذلك كمن تدفعه القوة القاهرة إلى إحداث تلك النتيجة.

ثالثاً: أنواع القصد الجنائي:

1- العمد أو القصد المباشر:

“العمد” هو إرادة النشاط مع العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة وكذلك العلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة مع توافر النية على تحقيق ذلك، ومن ثم يكون لدى الفاعل درجة اليقين بأن فعله سيترتب عليه إحداث النتيجة.

2- القصد الاحتمالي أو الغير مباشر:

يلزم لتوافر هذا القصد أن يكون لدى الجاني العلم والإرادة، ولكن لا يصل توقعه في إحداث النتيجة إلى درجة اليقين، حيث إن علمه يتوقف عند حد توقع النتيجة مع اتجاه إرادته إلى قبولها.

أ- تطبيق قضائي للكشف عن القصد الاحتمالي:

ولقد تم الكشف عن القصد الاحتمالي في أحد أهم أحكام محكمة النقض المصرية في واقعة تعود أحداثها إلى صعيد مصر عندما قام قرين المجني عليها في دس السم في فطيرة تحملها أثناء ذهابها للحقل وكان برفقتها طفلتين صغيرتين، وما حدث أن التهمت الطفلتين بعض أجزاء الفطيرة ونقلا على المستشفى لتلقي العلاج وتوفيت على إثر ذلك أحدهما.

وهذا ما دفع محكمة الجنايات إلى إدانة الجاني بجريمتي القتل الخطأ والشروع في القتل، حتى وصل الأمر إلى محكمة النقض والتي أصدرت حكماً استطاع أن يميط اللثام عن فكرة القصد الاحتمالي الذي كان يعاني من التباس شديد على صعيد التمييز بينه وبين الخطأ غير العمدي.

حيث قضت محكمة النقض المصرية في حكمها رقم ١٨٣٥ لسنة ٤٧ قضائية الصادر عام 1930 بأن: (القصد الاحتمالي يقوم مقام القصد الأصيل في تكوين ركن العمد، و هو لا يمكن تعريفه إلا بأنه نية ثانوية غير مؤكدة تختلج بها نفس الجاني الذى يتوقع أن قد يتعدى فعله الغرض المنوي عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينوه من قبل أصلاً فيمضى مع ذلك في تنفيذ الفعل فيصيب به الغرض الغير المقصود، و مظنة وجود تلك النية هي استواء حصول هذه النتيجة و عدم حصولها لديه، و المراد بوضع تعريفه على هذا الوجه أن يعلم أنه لابد فيه من وجود النية على كل حال و أن يكون جامعاً لكل الصور التي تشملها تلك النية مانعاً من دخول صور أخرى لا نية فيها داعياً إلى الاحتراس من الخلط بين العمد و الخطأ.

الضابط العملي لوجود القصد الاحتمالي :

والضابط العملي الذي يعرف به وجود القصد الاحتمالي أو عدم وجوده هو وضع السؤال الآتي والإجابة عليه : ” هل كان الجاني عند ارتكاب فعلته المقصودة بالذات مريداً تنفيذها ولو تعدى فعله غرضه إلى الأمر الإجرامي الآخر الذي وقع فعلاً ولم يكن مقصوداً له في الأصل أم لا ؟ ” فإن كان الجواب بالإيجاب تحقق وجود القصد الاحتمالي، أما إن كان بالسلب فهناك لا يكون في الأمر سوى خطأ يعاقب عليه أو لا يعاقب بحسب توفر شروط جرائم الخطأ و عدم توفرها، ثم إن الإجابة على هذا السؤال تنبني طبعاً على أدلة الواقع من اعتراف أو بينات أو قرائن، و عليه فالقصد الاحتمالي لا يتحقق في صورة ما إذا قصد المتهم قتل زيد فوضع له مادة سامة في قطعة حلوى و أعطاها له ليأكلها فاستبقى زيد هذه القطعة و جاء بكر فوجدها فأكل منها فمات، فإن المتهم في هذه الحالة يعاقب بتهمة الشروع في قتل زيد فقط و لا تجوز معاقبته بتهمة قتل بكر بادعاء أن القصد الاحتمالي قد تحقق، لأن النية الثانوية غير موجودة بل الموجودة نية متركزة منصبة كلها على الغرض الأصلي المقصور بالذات مقصورة عليه و غير متجاوزة له إلى أي غرض إجرامي آخر).

ومن ثم فتوقع حدوث النتيجة مع قبولها يُعد مناط توافر القصد الاحتمالي، وذلك ما تؤكده (المادة 64) من قانون العقوبات الأردني والتي نصت على أن: (تعد الجريمة مقصودة وان تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة).

ب- اختلاف القصد الاحتمالي عن الخطأ:

يتضح مما سبق أن القصد العمد يصل إلى درجة يقين حدوث النتيجة، في حين أن القصد الاحتمالي يتوقف عند حد توقع حدوث النتيجة مع قبولها، أما الخطأ فمؤداه توقع حدوث النتيجة، ولكن مع عدم تقبلها إلا أنها تحدث نتيجة عدم احتراز الجاني أو إهماله أو رعونته.

وهذا ما يؤكد عليه المشرع الأردني بموجب (المادة 64) من قانون العقوبات بقوله: (ويكون الخطأ إذا نجم الفعل الضار عن الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة).

وتوضيحاً لذلك نضرب المثال الذي يقوم فيه قائد السيارة بالسير بسرعة عالية، ففي هذه الحالة يكون متوقعاً أنه من الممكن أن يصطدم بأحد الأشخاص فيرديه قتيلاً، ولكنه لا يتقبل ذلك حيث يكون لديه اعتقاد بأنه سيستطيع تفادي من يظهر أمامه بالاعتماد على مهارته في القيادة، ومن ثم فإنه إذا ما اصطدم بأحد الأشخاص مما تسبب في وفاته فلا يمكن أن ينسب إليه جريمة قتل عمد لتوافر القصد الاحتمالي، وإنما يكون مرتكباً لجريمة قتل خطأ.

3- القصد المحدود والقصد الغير محدود:

القصد المحدود هو الذي تتجه في إرادة الجاني إلى تحقيق نتيجة إجرامية في موضوع بعينه، كمن يطلق النار على غريمه قاصداً قتله، أو من يستهدف عدة أشخاص معينين بالذات قاصداً قتلهم.

أما القصد غير المحدود فيتحقق عندما تتجه إرادة الجاني إلى تحقيق النتيجة الإجرامية دون تحديد للمجني عليه، وذلك كمن يطلق النار على جموع من الأشخاص ليقتل عدد منهم دون تحديد لشخصياتهم.

وجديراً بالذكر أنه ليس لهذا التقسيم أهمية من حيث الأثر القانوني ذلك أن موضوع النتيجة ليس من العناصر القصد الجنائي الجوهرية.

4- القصد العام والقصد الخاص:

القصد العام هو الذي يكتفى فيه بالعلم بعناصر الجريمة مع اتجاه إرادة الجاني إلى إتيان السلوك الإجرامي وتحقيق النتيجة أو على الأقل قبولها، وهذا القصد هو الذي يتطلب للسواد الأعظم من الجرائم.

ولكن هناك بعض الجرائم التي يتطلب لها المشرع قصد خاص إلى جانب القصد العام، حيث يتعين أن يتجه علم الجاني وتتجه إرادته إلى وقائع أخرى لا تدخل ضمن عناصر الجريمة، وذلك كما هو الشأن في جريمة التزوير حيث لا يكفي لقيام الجريمة مجرد تزوير ورقة رسمية أو عرفية وإنما يجب أن تنصرف نية الجاني إلى استعمال المحرر المزور.

لذلك لا يرتكب جريمة تزوير من يقوم باصطناع شهادة جامعية يستخدمها في الشرح لطلابه مثلاً دون أن يكون لديه نية استعمالها.

5- القصد البسيط والقصد مع سبق الإصرار:

القصد البسيط هو مجرد العلم بعناصر الجريمة واتجاه الإرادة إلى إحداث النتيجة الإجرامية دون سبق التخطيط لذلك، أما سبق الإصرار فهو – وفقاً (للمادة 231) من قانون العقوبات المصري – (القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية ويكون غرض المصر منها إيذاء شخص معين وجده أو صادفه، سواء كان ذلك القصد معلقا على حدوث أمر أو موقوفا على شرط).

ويذهب الرأي الغالب في الفقه والقضاء إلى أن سبق الإصرار لا يتحقق إلا إذا تبين أن الجاني كان لديه الهدوء والروية اللذان يصاحبان تفكيره في إتيان الجريمة، ومن ثم فلا يعد العنصر الزمني من عناصر سبق الإصرار الجوهرية، فلو كانت نفس الجاني هائجة موتوره لم يدع لها انزعاجها مجالاً للتبصر فيما هي مقدمة عليه فلا يمكن أن يوصف فعله بأنه مقترن بسبق الإصرار.

تطبيق قضائي لبيان جوهر سبق الإصرار:

تعود أحداث القضية إلى مركز البداري عندما قام مأمور المركز بإيقاع ألوان العذاب على اثنين من المواطنين بصفة يومية في ديوان القسم من خلال التعدي عليها بالضرب وقص شاربهما وإدخال العصا في أدبارهما وربطهما في محل الخيل كالبهائم وإجبارهما على التسمي بأسماء النساء، وبعدما أطلق سراحهما نويا قتله، فعزموا النية على ذلك ووضعوا خطتهم وتربصوا به في مكان عودته من عمله وأطلقا النيران عليه فأردياه قتيلاً.

وبعرض الأمر على محكمة النقض المصرية قررت نفي ظرف سبق الإصرار عن المتهمين وذلك عندما قضت في حكمها رقم 2421 سنة 2 القضائية جلسة 5 ديسمبر سنة 1932 بأن: (إن هذه المعاملة التي أثبتت المحكمة أن المجنى عليه كان يعامل الطاعنين بها، هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون، وكلها من أشد الخزي إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام، فلا شك أن مثلهما الذى أوذِى واهتيج ظلما وطغيانا، والذى ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به – لاشك – أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه، فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم موتوره مما كان، منزعجة مما سيكون، والنفس الموترة المنزعجة هي نفس هائجة أبدا، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون حتى يُحَكِّم العقل – هادئا متزنا مترويا – فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها، ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار إذ هذا الظرف يستلزم أن يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروّي والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه).

رابعاً: الدافع على الجريمة:

يُعد الدافع وفقأ (للمادة 67/1) من قانون العقوبات الأردني هو: (العلة التي تحمل الفاعل على الفعل، أو الغاية القصوى التي يتوخاها).

والأصل العام أن الدافع لا يُعتد به ولا يكون له عبرة في نفي نية الجاني أو نفي قصده الجنائي مالم ينص القانون على غير ذلك، وهذا ما قرره المشرع المصري بموجب (المادة 67/2) من قانون العقوبات والتي نصت على أن: (لا يكون الدافع عنصرا من عناصر التجريم إلا في الأحوال التي عينها القانون).

فهناك بعض الجرائم التي يؤثر الدافع فيها على تخفيف أو تشديد العقاب، وذلك كما هو شأن المرأة التي تقتل ولدها اتقاءً للعار حيث قرر المشرع الأردني في (المادة 332) من قانون العقوبات بأن: (تعاقب بالاعتقال مدة لا تنقص عن خمس سنوات ، الوالدة التي تسببت – اتقاء العار – بفعل أو ترك مقصود في موت وليدها من السفاح عقب ولادته).

استطراد:

أثارت فكرة الدافع مسألة القتل الرحيم الذي حدث بشأنه جدالاً صاخباً بين رجال القانون ورجال الدين والأطباء، وانقسم الجموع إلى فريقين منهم من رأي بضرورة انتفاء المسئولية الجنائية عمن يرتكب جريمة قتل رحمة بالمجني عليه والذي يكون قد بلغ من الألم أشده ويأس الطب من علاجه فيكون القتل رحمة له، ولقد قررت بعض الدول جواز القتل رحمة بالمرضى وذلك مثل هولندا وبلجيكا.

إلا أن الرأي الأخر ذهب إلى عدم جواز ذلك وأن الإنسان يظل مشمول بحماية القانون الجنائي مهما تمكن منه المرض وبلغ به الوهن والعياء، وهذا هو ما استقر عليه كل من المشرع المصري والأردني حيث إن قتل المجني عليه نظراً لمعاناته من مرض فتاك يوقع القاتل تحت مغبة العقاب بجرم القتل العمد مثله مثل أي قاتل، فلا عبرة للدافع وراء الجريمة مهما كان نبيلاً إلا ما استثناه المشرع بنص خاص.

خامساً: النصوص القانونية المتعلقة بالركن المعنوي للجريمة:

وردت تلك النصوص في قانون العقوبات في المواد التالية:

المادة 63:

النية: هي إرادة ارتكاب الجريمة على ما عرفها القانون.

المادة 64:

تعد الجريمة مقصودة وان تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة ، ويكون الخطأ إذا نجم الفعل الضار عن الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة.

المادة 65:                          

لا عبرة للنتيجة إذا كان القصد أن يؤدي إليها ارتكاب فعل، إلا إذا ورد نص صريح على أن نية الوصول إلى تلك النتيجة تؤلف عنصرا من عناصر الجرم الذي يتكون كله أو بعضه من ذلك الفعل.

المادة 66:

إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها، عوقب الفاعل كما لو كان اقترف الفعل بحق من كان يقصد.

المادة 67:

1-الدافع: هو العلة التي تحمل الفاعل على الفعل، أو الغاية القصوى التي يتوخاها.

2- لا يكون الدافع عنصرا من عناصر التجريم إلا في الأحوال التي عينها القانون.

المادة 74/1:

لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة.

المادة 85:

لا يعتبر جهل القانون عذرا لمن يرتكب أي جرم

المادة 86:

1- لا يعاقب كفاعل أو محرض أو متدخل كل من اقدم على الفعل في جريمة مقصودة بعامل غلط مادي واقع على احد العناصر المكونة للجريمة.

2- إذا وقع الغلط على احد الظروف المشددة لا يكون المجرم مسؤولا عن هذا الظرف.

سادساً: اجتهادات محكمة التمييز :

فيما يلي بعض اجتهادات محكمة التمييز بشأن الركن المعنوي للجريمة

تمييز جزاء رقم 702 لسنة 1998 ما يلي:

إذا كان من الثابت أن المميز ضده قد أطلق النار على المجني عليها فلم يصبها وإنما أصاب المجني عليه وكانت إصابة هذا الأخير قد شكلت خطورة على حياته وانه لولا التدخل الجراحي لأدت الإصابة إلى وفاته فان فعله يشكل شروعا بقتل كل منهما ولا يؤثر على ذلك أن المجني عليه المصاب لم يكن المقصود بإطلاق النار أصلا لأنه وعملا بنص المادة (66) من قانون العقوبات إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها عوقب الفاعل كما لو كان اقترف الفعل بحق من كان يقصد.

تمييز جزاء 124 لسنة 1994 ما يلي:

لا يكون الدافع عنصرا من عناصر التجريم إلا في الأحوال التي عينها القانون عملا بالمادة (67 /2) من قانون العقوبات وعليه فان إطلاق المتهم عدة عيارات نارية باتجاه المغدور حيث كان على سطح منزله وأصابت احدى هذه العيارات المغدور في مكان خطر من جسمه أدت إلى وفاته فان هذه الوقائع كافية للتوصل إلى أن المتهم كان يقصد القتل وعليه فاستخلاص محكمة الموضوع هذه البينة من وقائع الدعوى هو استخلاص سليم متفق مع أحكام القانون.

تمييز جزاء رقم 82 لسنة 1970 ما يلي:

وبعد التدقيق نجد أن البينات التي استجمعتها محكمة الموضوع وقنعت بها كافية لاستخلاص النتيجة التي توصلت الهيا من أن المميز هو الذي دفع المشتكي وأوقعه على الأرض مما نشا عنه عاهة مستديمة له، أما قول المميز أن قيامه بدفع المشتكي لم يكن عن قصد وإنما حصل عن خطا فقول مردود، إذ أن البينة أثبتت أن الدفع وقع عن قصد، ولهذا فان الجريمة تعد مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل قصد الفاعل عملا بالمادة 64 من قانون العقوبات، ولهذا يكون الحكم بإدانة المميز بجريمة إحداث العاهة قصدا والحكم عليه بالعقوبة طبقا لنص المادة 335 من قانون العقوبات متفقا وأحكام القانون.

تمييز جزاء 25 لسنة 1967 الآتي:

لا يشترط لتوفر القصد الجرمي في الإيذاء أن يكون الجاني قد قصد إحداث عاهة مستديمة في المجني عليه، بل يكفي أن يكون قصد الضرب بقطع النظر عن النتيجة التي قد تنشا عنه، وذلك لان الجريمة تعد مقصودة وان تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة.

إعداد/ أحمد منصور.

[1] الأستاذ الدكتور/ سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات، دار المطبوعات الجامعية، 2014، ص433.

[2] دكتور/ فتوح عبد الله الشاذلي، شرح قانون العقوبات القسم العام “الكتاب الأول”، دار المطبوعات الجامعية، 2018، ص315.

error: Alert: Content is protected !!