الإثراء بلا سبب

الإثراء بلا سبب

تمثل نظرية الالتزام الدعامة الرئيسية التي تستند إليها الغالبية العظمى من الأحكام التي يقررها القانون المدني بوجه خاص وأحكام القانون بوجه عام، حيث أن الالتزام يمثل ما يمتلكه شخص من سلطة على آخر تجعله قادراً على جعله يقوم بتصرف ما او يمتنع عن القيام به، ولا يقتصر الالتزام على نوع وحيد بل يظهر في أكثر من نوع، وتختلف أنواعه باختلاف مصدر الالتزام، ومصدره إما أن يكون إرادياً كما هو الحال في العقود، وإما أن يكون غير إرادياً كما هو الحال في الفعل الضار والإثراء بلا سبب والفضالة.

وسوف نتعرض في هذا المقال إلى واحد من أهم المصادر اللاإرادية للالتزام وهو الإثراء بلا سبب، حيث سنتناول التعريف به، وتمييزه عما يتشابه معه من مصادر أخرى للالتزام، وتوضيح أركانه، وغيرها من الأوجه الأخرى التي ترسم صورة كاملة للإثراء بلا سبب في ظل القانون الأردني.

 

أولاً: المقصود بالإثراء بلا سبب

ثانياً: التمييز بين الإثراء بلا سبب وما يتشابه معه من أوضاع قانونية

ثالثاً: الأركان الأساسية للإثراء بلا سبب

رابعاً: الأثر القانوني المترتب على تحقق حالة الإثراء بلا سبب (دعوى الإثراء بلا سبب)

خامساً: نماذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة

سادساً: الخاتمة

 

أولاً: المقصود بالإثراء بلا سبب

بداية نود أن نوضح أن المشرغ الأردني عرف الإثراء بلا سبب بمسماه هذا بجانب مسمى آخر له وهو “الكسب بلا سبب”، وكلا المسميان لهما ذات المعنى والمقصد، لذلك فإن استخدام أياً منهما يغني عن الآخر ويدل على ذات الممعنى المقصود.

والإثراء في حد ذاته هو مصطلح يدل على ما يعود على الشخص من منافع سواء كانت مادية أو معنوية طالما كانت تلك المنافع قابلة لأن يتم تقويمها مالياً، فهو بوجه عام يشير إلى أي فائدة تعود على الشخص الذي يصبح مديناً، ولكن تلك المنافع أو الفائدة لا تكون مستندة إلى سبب قانوني مشروع يسوغ اكتسابها من قبل هذا الشخص، ولكن يكون اكتسابه لها على حساب شخص آخر.

ولا يختلف الأمر في هذا الشأن سواء كان هذا الشخص حسن النية أو سيء النية، أو كان مميزاً أو غير مميزاً، ففي جميع الأحوال يصبح هذا الشخص مديناً بما عاد عليه من فائدة أو نفع لكونه لم يتحصل عليه استناداً إلى سبب قانوني مشروع، يكون دينه هذا لصالح الشخص الذي تمكن من تحقيق هذه الفائدة أو النفع على حسابه.

وكمثال لتوضيح مفهوم الإثراء بلا سبب نفترض وجود أرضين زراعيتين متلاصقتين يمتلك كلاً منهما شخصاً مختلفاً، ثم قام أحدهما برش أسمدة ومقويات زراعية على أرضه وعلى جزء من أرض جاره معتقداً أن هذا الجزء يتبع أرضه، وهو ما نتج عنه ارتفاع قدرة هذا الجزء من أرض جاره على الإنبات، فزاد المحصول الذي نبت في هذا الجزء من الأرض عن سائر أرض جاره الأخرى، فيكون الجار هنا قد حقق منفعة لا تستند إلى سبب قانوني مشروع والتي تتمثل في تحقيق فائض من المحصول في هذا الجزء من الأرض، وقابل تلك المنفعة افتقاراً لجاره بمقدار ما تكبد من قيمة أسمدة ومقويات زراعية قام برشها في هذا الجزء من أرض جاره.

ثانياً: التمييز بين الإثراء بلا سبب وما يتشابه معه من أوضاع قانونية

وفقاً لمفهوم الإثراء بلا سبب والذي أوضحناه بالبند الأول من هذا المقال فإنهذا المفهوم قد يتداخل مع مفهوم بعض الاوضاع القانونية الأخرى التي قررها المشرع، والتي وإن كانت تتشابه مع الإثراء بلا سبب ظاهرياً، إلا أنها تختلف عنه في مضمونها في أكثر من جانب، وسوف نتناول بعض تلك الأوضاع القانونية في النقاط الآتي بيانها.

1- الاختلاف بين الإثراء بلا سبب والفضالة

الفضالة في تعريف غالبية الفقه القانوني لها هي قيام شخص بعمل مادي أو تصرف قانوني لا يلزمه به القانون أو الاتفاق أو القضاء، ويكون على علم بأن ذلك العمل أو التصرف هو لحساب شخص آخر، وذلك بهدف مساعدته لكون الشخص الذي يتم العمل لحسابه غائباً أو غير قادر على القيام بهذا العمل[1].

وقد عرف المشرع الأردني الفضالة في نص المادة رقم (301) من القانون المدني بأنها (الفضالة من قام بفعل نافع للغير دون أمره ولكن أذنت به المحكمة أو أوجبته ضرورة أو قضى به عرف فإنه يعتبر نائباً عنه …).

ومن خلال التعريف الفقهي والقانوني للفضالة يمكننا أن نستوضح أوجه الاختلاف بينها وبين الإثراء بلا سبب، وتلك الأوجه يمكننا أن نوجز أهمها في النقاط الآتية:

  • تعد النية الممثلة للجانب الشخصي للفضولي هي المسيطرة على الفضالة وذلك لما لها من دور جوهري في تحققها، في حين أن الإثراء بلا سبب يسيطر عليه الجانب الموضوعي، ففي الفضالة تكون نية وقصد الفضولي محل اعتبار رئيسي حيث يستلزم تحقق الفضالة أن تتجه نيته وقصده إلى إدارة شؤون الغير في غيابه، بينما في الإثراء بلا سبب يكون منشا التزام المدين هو افتقار الشخص الآخر دونما النظر إلى نية المدين[2].
  • يختلف الإثراء بلا سبب عن الفضالة فيما يترتب على كلاً منهما من آثار، ففي الإثراء بلا سبب يحق للشخص المفتقر أن يرجع على الشخص الذي أثرى على حسابه إما بقيمة ما أصابه من افتقار وإما بقيمة ما طرأ على الشخص الآخر من إثراء، ويكون تحديد ذلك وفقاً لأقلهما في القيمة والتي تكون هي المستحقة له، بينما في الفضالة فإن الرجوع يكون من قبل الفضولي على صاحب العمل بجميع ما قام الفضولي بإنفاقه حتى وإن كانت قيمة ذلك تزيد على ما أصاب صاحب العمل من ثراء.
  • أما من حيث التزامات المدين في الإثراء بلا سبب والفضالة فإن الأمر أيضاً يختلف، ففي الإثراء بلا سبب لا يكون المفتقر ملتزماً بثمة التزام تجاه الشخص الذي أثرى على حسابه، بينما في الفضالة يكون الفضولي ملتزماً تجاه صاحب العمل بمجموعة من الالتزامات التي أهمها تقديم كشف حساب يفيد كافة ما قام بإنفاقه.

2- الاختلاف بين الإثراء بلا سبب والفعل الضار

لم يتعرض المشرع الأردني بالتعريف للفعل الضار في حد ذاته وإن كان قد تعرض له ببيان للأحكام التي تنظمه، تاركاً مسألة اللتعريف به للفقه القانوني، وهو ما أدى إلى تعدد وتنوع التعاريف التي وضعت لبيان مفهوم الفعل الضار، ومن أهم تلك التعاريف تعريفه بأنه إخلال يصدر من الشخص بالتزام قانوني مفروض تكون نتيجته حدوث ضرر لشخص آخر، وتعريفه أيضاً بأنه الخطأ الذي يرتكبه الشخص فيترتب عليه ضرراً يصيب الغير ويكون ذلك الضرر موجباً للتعويض.

ويخلط البعض بين الإثراء بلا سبب والفعل الضار باعتبار أن كلاهما يعدا من مصادر المسؤولية التقصيرية، ويرتب كلاً منهما التزاماً باللتعويض، إلا انهما في حقيقتهما يختلفان في أكثر من جانب، ومن أهم تلك الجوانب نذكر ما يلي:

  • لا يشترط في الإثراء بلا سبب توافر ركن الخطأ في فعل الإثراء الذي قام به الشخص المفتقر، في حين أن الخطأ هو امر مفترض في الفعل الضار ويعتبره البعض ركن رئيسي من أركانه.
  • في الفعل الضار يكون القائم بالفعل قد تسبب في ضرر يصيب غيره ويكون مرتكب الفعل ملتزماً بتعويض هذا الغير عما أصابه من ضرر، في حين أن القائم بفعل الإثراء لا يصيب غيره بالضرر بل يصيب غيره بالنفع، ويكون الملتزم هنا بالتعويض هو الغير وليس مرتكب فعل الإثراء.
  • يقع على عاتق الشخص الذي ارتكب الفعل الضار التزاماً بأن يؤدي إلى من أصابه الضرر قيمة التعويض الذي يجبر هذا الضرر كاملاً، بينما يتم احتساب قيمة التعويض في الإثراء بلا سبب على أساس ألقيمة الأقل من بين الافتقار والإثراء.

ثالثاً: الأركان الأساسية للإثراء بلا سبب

قرر المشرع الأردني في نص المادة رقم (293) من القانون المدني رقم 43 لسنة 1976 على أن (لا يسوغ لأحد أن يأخذ مال غيره بلا سبب شرعي فإن أخذه فعليه رده)، كما قرر أيضاً في المادة رقم (294/1) من ذات القانون على أن (1- من كسب مالاً من غيره بدون تصرف مكسب وجبت عليه قيمته لهذا الغير ما لم يقض القانون بغير ذلك).

ومن خلال هذين النصين يتضح أنه ولكي تتحقق حالة الإثراء بلا سبب فإنه يلزم أن تتوافر بعض الأركان الأساسية مجتمعة، وتلك الأركان تحديداً هي ثلاث أركان تتمثل في تحقق إثراء في ذمة المثري (المدين)، وتحقق افتقار في ذمة المفتقر (الدائن)، أن يكون الإثراء والافتقار مفتقدين للسبب القانوني المشروع.

1- الركن الأول: تحقق إثراء في ذمة المثري (المدين)

يجب لكي تتحقق حالة الإثراء بلا سبب أن يكون هناك إثراء قد تحقق للشخص الذي تم العمل أو التصرف لصالحه والذي يسمى بـ”المثري”، ولا يقتصر الإثراء هنا على زيادة حقوق هذا الشخص ولكنه يشمل أيضاً انخفاض التزاماته، فمن الممكن أن يكون الإثراء متحققاً بزيادة عناصر ذمته المالية، كما يمكن أيضاً أن يتحقق بتقليل الالتزامات الواقعة عليه، ويعتبر الإثراء الذي يصيبه هو أساس ومصدر التزامه بتعويض الطرف الآخر المسمى بـ”المفتقر”.

والإثراء وفقاً لذلك قد يأخذ أكثر من صورة كما قد يتحقق بأكثر من نوع، ونوضح تلك الصور والأنواع على النحو التالي:

  • قد يكون الإثراء بالنظر إلى كيفية حصوله إما مباشراً أو غير مباشر، والإثراء المباشر يقصد به الإثراء الذي لا يقتضي تحققه تدخل من شخص ثالث بخلاف المثري والمفتقر، بل يتحقق بينهما بصورة مباشرة ودون وجود وسيط[3]، فالإثراء قد يتحقق بتدخل المفتقر مباشرة كما هو الحال في إجراء مستأجر المنزل لبعض الترميمات التي تقع في الأصل على عاتق المؤجر، كما قد يتحقق بفعل المثري باستخدامه لمال شخص آخر للوقاية من خطر يوشك على الوقوع.

أما الإثراء غير المباشر فيقصد به الإثراء الذي يتحقق بواسطة طرف ثالث يتدخل كوسيط لتحقيقه، ولا يخرج تدخله هذا عن كونه تصرف قانوني أو عمل مادي، وعلى سبيل المثال لذلك قيام قبطان سفينة نقل بإلقاء بضائع شخص ما ليتمكن من إنقاذ سائر البضائع الأخرى المملوكة لأشخاص آخرين.

  • كما قد يكون الإثراء مادياً أو معنوياً بالنظر إلى المحل الذي ينصب عليه، ويقصد بالإثراء المادي هو الزيادة التي تطرأ على الذمة المالية للشخص المثري، سواء كانت تلك الزيادة متمثلة في حقوق شخصية أو مالية أو عينية.

بينما الإثراء المعنوي يقصد به أي إثراء يطرأ على عقل الشخص أو صحته أو لياقته أو أي إثراء غير ملموس يتحقق للشخص المثري، وعلى سبيل المثال لذلك ما يتحقق لدى الطالب من إثراء عقلي نتيجة لما يقدمه المعلم من مجهود في سبيل تحقيق ذلك.

  • وأيضاً يمكن أن يكون الإثراء إيجابياً أو سلبياً بالنظر إلى طبيعته، والإثراء الإيجابي يقصد به أن يكتسب الشخص قيمة مالية إضافية يتم إضافتها إلى  الذمة المالية  الخاصة به، سواء كان ذلك في شكل إضافة حقاً جديداً ذو قيمة مالية، أو أن تزيد قيمة ما يمتلكه من حقوق.

أما الإثراء السلبي فيقصد به انخفاض الجانب السلبي للذمة المالية للمثري[4]، بمعنى آخر أن يتم الانتقاص من حجم الديون والالتزامات التي تقع على عاتقه، كما هو الحال في قيام المثري بالوفاء ببعض ديونه باستخدام مال غيره وهو المفتقر، فتكون ديونه قد نقصت على حساب الغير، ويدخل في عداد الإثراء السلبي أيضاً أن يتم تجنيب المثري الإصابة بخسائر والحيلولة دون وقوعها عن طريق فعل الإثراء، ففي تلك الحالة يكون الإثراء السلبي متمثلاً في منع ازدياد الالتزامات الممثلة للجانب السلبي لذمته المالية.

وبوجه عام فإن تحقق الإثراء بلا سبب يستلزم بداية أن يتحقق الإثراء في أي صورة من الصور التي قمنا بتوضيحها أعلاه، قبل يشترط تحققه في شكل محدد بل يعد متحققاً متى توافرت أي صورة من صور الإثراء سالفة البيان.

2- الركن الثاني: تحقق افتقار في ذمة المفتقر (الدائن)

لايكتفي المشرع في تحقق الإثراء بلا سبب بتحقق الإثراء في ذمة المثري، ولكنه استلزم أيضاً أن يقابل هذا الإثراء تحقق لافتقار في ذمة المفتقر (الدائن)، بحيث يكون افتقار المفتقر هو السبب في الثراء الذي طرأ على المثري.

ويقصد بالافتقار أن يصاب القائم بفعل الإثراء بخسائر تصيب ذمته المالية، وأن تكون تلك الخسائر هي السبب في تحقق الإثراء للطرف الآخر المثري، أي أن تكون هناك رابطة سببية تربط بين افتقار القائم بفعل الإثراء والإثراء الذي طرأ على المثري.

ويعتبر هذا الركن ركناً أساسياً وجوهرياً لقيام حالة الإثراء بلا سبب، لاسيما وأنه متى تحقق الإثراء للمثري ولم يقابله افتقاراً في ذمة القائم بفعل الإثراء فلا يعد الأخير مفتقراً، وبالتالي لا يحق له إقامة دعوى الإثراء بلا سبب على المثري نظراً لكون ركن الافتقار لم يتحقق في جانبه.

وعلى سبيل المثال لذلك أن يقوم شخص بإنشاء مشروع ما في منطقة غير مأهولة، ويتسبب هذا المشروع في ارتفاع قيمة سعر الأراضي في تلك المنطقة، فيستفيد ملاك الأراضي المحيطة بهذا المشروع من تلك الزيادة في السعر، ففي تلك الحالة لا تتحقق حالة الإثراء بلا سبب على الرغم من إثراء ملاك تلك الأراضي، وذلك نظراً لعدم افتقار الشخص صاحب المشروع، ولا يمكن الزعم بأن هذا الشخص قد افتقر بقيمة ما أنفقه في إنشاء مشروعه لكونه قد قام بإنشائه لاستثماره والاستفادة منه وتحقيق أرباح، وبالتالي فهو لم يفتقر بل على العكس تماماً قد حقق أرباح نتيجة لمشروعه هذا.

والافتقار مثله مثل الإثراء يمكن أن يتحقق في أكثر من صورة، فقد يكون افتقاراً إيجابياً أو سلبياً، كما قد يكون افتقاراً مباشراً أو غير مباشر، وقد يكون افتقاراً مادياً أو معنوياً.

  • أما الافتقار الإيجابي فيقصد به أن يصاب الشخص المفتقر بخسارة أو فقد لأحد حقوقه الشخصية أو العينية، أو أن تنقص ذمته المالية نتيجة فقده لحق من هذه الحقوق، ولا يقتصر تحقق الافتقار الإيجابي على فعل المفتقر فقط بل قد يتحقق بسبب فعل المثري نفسه، وذلك كما هو الحال في قيام المثري بالانتفاع بمال مملوك للمفتقر دون إذن الأخير ودون وجه حق يبيح للمثري ذلك.

أما الافتقار السلبي فيتمثل فيما قد يفوت على المفتقر من كسب أو منفعة يكون من حقه أن يتحصل عليها ولكنه لا يستطيع ذلك بسبب فعل الإثراء، ومثال على ذلك أن يقوم السمسار بتوفير مستأجر لشقة المثري ويمتنع المثري عن أداء مقابل المجهود الذي قام به السمسار، فيكون المثري قد فوت على السمسار فرصة كسب ذلك المقابل عن العمل الذي تسبب في إثرائه.

  • ويقصد بالافتقار المباشر أن تنتقل القيمة المالية من ذمة المفتقر بشكل مباشر إلى الذمة المالية للمثري دون أن يكون هناك أي تدخل من أي وسيط بينهما، أي دون وجود طرف ثالث في عملية الانتقال، وذلك كما هو الحال في قيام المفتقر بشراء أسمدة ومقويات زراعية من ماله الخاص ووضع بعض منها في أرض المثري فتزيد من قدرة الأرض على الإنتاج.

أما الافتقار غير المباشر فهو ان تنتقل القيمة المالية من ذمة المفتقر إلى ذمة مالية لشخص ثالث بخلاف المثري، ثم تنتقل بعد ذلك من الذمة المالية لهذا الشخص الثالث لتدخل في الذمة المالية للمثري[5]، ففي هذه الصورة يكون الافتقار متحققاً عن طريق وسيط بين المفتقر والمثري يتدخل بفعله ليحقق الافتقار للمفتقر والإثراء للمثري، ومثال على ذلك قيام قبطان سفينة النقل بإلقاء بعض البضائع التي ينقلها في البحر لإنقاذ باقي البضائع الأخرى من الغرق، فيكون افتقار أصحاب البضائع التي تم إلقائها في البحر وإثراء أصحاب البضائع التي تم إنقاذها عائداً إلى فعل قبطان السفينة.

  • وهناك الافتقار المادي الذي يتمثل في النقص الذي يصيب الذمة المالية للمفتقر سواء بنقص قيمتها أو بمنع الزيادة التي كان يجب أن تطرأ عليها وحرمان المفتقر منها، وهو بذلك ما يجعل الافتقار المادي شاملاً للافتقار بصوره الإيجابي والسلبي والمباشر والغير مباشر، وهذا النوع من الافتقار يسهل تقدير قيمته حيث يستطيع المفتقر الوقوف على مقدار افتقاره بسبب فعل الإثراء.

وعلى الجانب الآخر فهناك الافتقار المعنوي والذي يقصد به الافتقار الغير ملموس الذي يصيب الشخص المفتقر ويترتب عليه إثراء مالي للمثري، كما هو الحال في إعلان التاجر عن عدم درايته ببعض أمور التجارة الحديثة بما يترتب عليه إحجام عملائه عن التعامل معه واتجاههم للتعامل مع منافسيه بما يعود على هؤلاء المنافسين بالإثراء، فيكون الافتقار هنا معنوياً ومصحوباً بافتقاراً مادياً للتاجر.

3– الركن الثالث: انتفاء السبب المشروع

ثالث الأركان التي تتحقق بها حالة الإثراء بلا سبب هو ركن يتعلق بالسبب الذي تحقق بموجبه الإثراء الذي طرأ على المثري، فيلزم أن يكون هذا السبب هو سبباً غير مشروع، وهو أمر منطقي حيث أن الإثراء لو كان مستنداً إلى سبب مشروع يبرر تحققه فلا مجال للحديث عن مسؤولية المثري لتعويض المفتقر عما أصابه من افتقار.

وإن كان الفقه القانوني قد اتفق على ضرورة أن يكون الإثراء قائماً على سبب غير مشروع، إلا أنه اختلف حول مفهوم ومضمون السبب، فمنهم من رأى ان السبب هنا يقوم على اعتبارات العدالة، ومنهم من رأى أنه يقوم على اعتبارات اقتصادية، واتجه جانب آخر إلى أن السبب يقوم على مفهوم قانوني بحت، ولن نخوض في بيان ذلك الخلاف نظراً لأن المشرع الأردني كان صريحاً في تحديد مفهوم السبب الذي أخذ به، حيث نص في المادة رقم (218/1/3) من المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني والخاصة ببيان ركن انتفاء السبب المشروع في الإثراء بلا سبب على أن (3- ألا يكون للإثراء الحادث والافتقار المترتب عليه سبب قانوني يبررها، فلا يجوز للواهب مثلاً أن يرجع على الموهوب له بدعوى الإثراء بلا سبب لأن بين العاقدين تصرفاً قانونياً وهو عقد التبرع يبرر افتقار أحدهما وإثراء الآخر).

ومن خلال ما ورد بنص المادة سالفة البيان يتضح أن المشرع الأردني قد قصد بالسبب هو السبب القانوني البحث، حيث اعتبر أن المقصود بعدم مشروعية السبب كركن للإثراء بلا سبب هو ألا يكون الإثراء أو الافتقار قائمين على سبب يجد له أساس في القانون، فلا يكون مصدر الإثراء أو الإفقار هو تصرف قانوني مشروع وإلا كان له ما يؤيده وبالتالي يخرجه عن اعتباره فعل إثراء بلا سبب، لكون الإثراء هنا له سبب قانوني يبرر تحققه.

رابعاً: الأثر القانوني المترتب على تحقق حالة الإثراء بلا سبب (دعوى الإثراء بلا سبب)

متى تحققت الأركان الثلاث المكونة لحالة الإثراء بلا سبب، وذلك بأن يتحقق إثراء في ذمة المثري (المدين)، ويتحقق افتقار في ذمة المفتقر (الدائن)، وأن يكون الإثراء والافتقار مفتقدين للسبب القانوني المشروع، فإن ذلك يرتب أثراً قانونياً هاماً وهو أحقية المفتقر في أن يستعيد ما فقده ونتج عنه افتقاره، ويكون السبيل أمامه عندئذ هو دعوى الإثراء بلا سبب، وسيكون محور هذا القسم من المقال هو دعوى الإثراء بلا سبب.

1- الطبيعة القانونية لدعوى الإثراء بلا سبب

اتجه جانب من الفقه إلى اعتبار دعوى الإثراء بلا سبب هي دعوى تتسم بالصفة الاحتياطية، ويقصد بذلك أنها دعوى قررها المشرع على سبيل الاحتياط ليلجأ إليها المفتقر متى لم يكن لديه طريق قانوني أو دعوى قضائية يمكنه من خلالهما أن يفتضي حقوقه لدى المثري، أما إن كان لديه أياً منهما – طريق قانوني أو دعوى قضائية – فليس له الحق في اللجوء إلى طريق إقامة دعوى الإثراء بلا سبب[6]، وقد كان على رأس مؤيدي هذا الاتجاه المشرع الفرنسي الذي وضع ذلك القيد كشرط لإقامة دعوى الإثراء بلا سبب في شكل نص قانوني صريح.

في حين اتجه جانب آخر من مشرعي القانون إلى تكييف دعوى الإثراء بلا سبب على أنها دعوى أصلية، أي أنها الدعوى الأساسية التي يلجأ إليها المفتقر للمطالبة بحقوقه واستعادة ما فقده وافتقر نتيجة فقده، سواء كان له طريق آخر يمكنه سلوكه لاقتضاء تلك الحقوق أو لم يكن له مثل هذا الطريق، فدعوى الإثراء بلا سبب هي دعوى مثل سائر الدعاوى القضائية الأخرى يحق إقامتها متى تحققت وتوافرت الشروط الخاصة بذلك، ويكون لصاحب الحق في إقامتها عندئذ أن يقيمها بغض النظر عن وجود سبيل آخر أمامه لاقتضاء حقوقه من عدمه.

ويعد المشرع الأردني من أنصار الاتجاه القائل بأن دعوى الإثراء بلا سبب هي دعوى ذات طبيعة أصلية، وذلك وفقاً لما ذكره بالمادة رقم (218) من المذكرة الإيضاحية للقانون المدني من أنه (…. ولا يشترط كذلك ألا يكون للدائن دعوى سوى دعوى الإثراء يستطيع أن يلجأ إليها لاستيفاء حقه، بل يجوز أن يباشر هذه الدعوى ولو هيأ له القانون طريقاً آخر).

2- أطراف دعوى الإثراء بلا سبب

دعوى الإثراء بلا سبب هي دعوى قضائية مثلها في ذلك مثل سائر الدعاوى القضائية الأخرىة لها طرفين أصليين وهما المدعي والمدعى عليه، ولكن التساؤل هنا يدور حول كنه شخص المدعي والمدعى عليه في تلك الدعوى، وهو ما سنوضحه على النحو التالي:

  • الطرف الأول وهو المدعي في دعوى الإثراء بلا سبب يتمثل في المفتقر، فهو صاحب الحق الذي يمنحه القانون الحق في إقامة دعوى الإثراء للمطالبة بحقه متى توافرت شروطها، ولا يفتصر إقامة تلك الدعوى على المفتقر بشخصه فقط، بل يمكن أن تقام من نائبه كالولي أو الوصي عليه متى كان قاصراً أو القيم عليه متى كان قيد الحجر أو وكيل التفليسة متى كان مفلساً، أو تقام من وكيله، او من خلفه سواء كان هذا الخلف عام كالورثة أو خاص كالمحال إليه.
  • الطرف الثاني هو المدعى عليه والذي يتمثل في المثري، ويسري عليه ذات الأمر بالنسبة للمفتقر في شأن إمكانية إقامتها على نائب المثري أو القيم عليه أو وكيله أو وكيل تفليسته أو خلفه العام أو خلفه الخاص.

3- هل يسقط الحق في إقامة دعوى الإثراء بلا سبب؟

نعم قد يسقط حق المفتقر في إقامة دعوى الإثراء بلا سبب بمضي المدة متى تخلف عن إقامتها خلال المدة التي حددها المشرع لذلك، وقد حدد المشرع الأردني مدة إقامة دعوى الإثراء بلا سبب في نص المادة رقم (311) من القانون المدني بما قرره من أن (لا تسمع دعوى الإثراء بلا سبب في جميع الأحوال المتقدمة بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه الدائن بحقه في الرجوع، وعلى كل حال لا تسمع الدعوى بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي نشأ فيح حق الرجوع).

ومن خلال هذا النص يتبين أن المشرع قد حدد مدتين لسقوط حق المفتقر في إقامة دعوى الإثراء بلا سبب بمرور إحدى المدتين – أيهما أقل – وهاتين المدتين هما:

  • المدة الأولى هي ثلاث سنوات من تاريخ علم المفتقر بانه يتمتع بالحق في الرجوع على المثري، ويقصد بذلك التاريخ الذي يعلم فيه المفتقر بتحقق واقعة الإثراء بلا سبب، وهذه المدة ترتبط بشرط أساسي لتطبيقها وهو شرط علم المفتقر بتحقق حالة الإثراء بلا سبب.
  • أما المدة الثانية فتطبق في حالة عدم تحقق شرط علم المفتقر بتحقق حالة الإثراء بلا سبب، ففي حالة عدم علمه بذلك فإن حقه في إقامة دعوى الإثراء بلا سبب يسقط بمرور خمس عشرة سنة من تاريخ تحقق حالة الإثراء.

وعلى سبيل المثال فإنه إذا كانت حالة الإثراء بلا سبب قد تحققت ولم يعلم بها المفتقر، ومرت أربعة عشر سنة على تاريخ تحققها ثم علم المفتقر بتحققها، فإن الدعوى تسقط بعد عام واحد من تاريخ علمه باعتبارها المدة الأقل لاكتمال مدة السقوط السارية (خمس عشرة عام)، بينما إذا كان ما مضى من مدة التقادم عشرة سنوات ثم علم المفتقر بتحقق حالة الإثراء، فإن حقه في إقامة الدعوى بمرور ثلاث سنوات من تاريخ علمه باعتبارها المدة الأقل.

4- الحكم في دعوى الإثراء بلا سبب

وفقاً لما نص عليه المشرع الأردني بنص المادة رقم (293) من القانون المدني الأردني من أنه (لا يسوغ لأحد أن يأخذ مال غيره بلا سبب شرعي فإن أخذه فعليه رده)، فإن الأصل في الحكم الصادر في دعوى الإثراء بلا سبب هو رد الشيء الذي انتقل إلى المثري ليعود إلى صاحبه وهو المفتقر، ويصح ذلك في حالة أن يكون هذا الشيء مازال صالحاً للرد ولم يفنى أو يهلك أو يستهلك.

فإذا ما كان رد الشيء بذاته متعذراً أو مستحيلاً فإن المحكمة المعروض عليها دعوى الإثراء بلا سبب تقضي على المثري برد قيمة الإثراء الذي طرأ عليه من جراء فعل الإثراء، والذي غالباً ما يكون مساوياً لقيمة ما طرأ على المفتقر من افتقار، حيث أن الإثراء غالباً ما يتحقق في حدود المقدار الذي افتقر به المفتقر.

إلا أن التساؤل يثور في الحالة التي يختلف فيها مقدار ما أصاب المفتقر من افتقار عن مقدار ما طرأ على المثري من إثراء، فبأي القيمتين تقضي المحكمة؟

الأصل في دعوى الإثراء بلا سبب أنها دعوى لرد الحقوق وليست دعوى تعويض، وبالتالي فإن المثري لا يتحمل بالتزام قوامه تعويض المفتقر عما أصابه من خسارة بشكل مطلق، ولكن ذلك يكون في حدود ما طرأ على المثري من إثراء، ولذلك فإنه في حالة اختلاف مقدار ما أصاب المفتقر من افتقار عن مقدار ما طرأ على المثري من إثراء، فإن المحكمة تلزم المثري بأن يرد إلى المفتقر أقلهما في القيمة، فيكون معيار التحديد هنا هو المقدار الأقل قيمة سواء كان ذلك هو مقدار الإثراء أو مقدار الافتقار.

 

خامساً: نماذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة

1- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 299 لسنة 2019 والصادر بجلسة 29/4/2019 والمتضمن أنه (اعتبار الشيك حقاً للمستفيد منه مشروط بأن يستحق القرض أو تتعثر المميزة في سداده، والشيك بذلك معلق على شرط ويفقد كفايته الذاتية ويترتب على ذلك وجوب بحث تحقق الشرط الوارد في الاتفاقية، ومن خلال الاتفاقية فإن الشيك تعلق بعلاقة كفالة المميز ضده للمميزة بمواجهة دائن المميزة وهو البنك، وما ينبني على ذلك ولكي تقبل دعوى المميز استناداً إلى الشيك موضوع الدعوى فلا بد أن يثبت المميز ضده أن المميزة تعثرت في سداد القرض أو أن القرض استحق وأن المبالغ المقابلة لقيمة الشيك قام المميز ضده بدفعها لدائن المميزة سداداً لذلك القرض والقول بغير ذلك يعد من قبيل الإثراء بلا سبب).

2- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 6141 لسنة 2022 والصادر بجلسة 11/1/2023 والمتضمن أنه (أركان قاعدة الإثراء بلا سبب تمثل بـ: إثراء في ذمة المثري (المدين)، وافتقار في ذمة المفتقر (الدائن)، وانعدام السبب القانوني لهذا الإثراء وقيام علاقة السببية بين الافتقار والإثراء، وبإنزال هذه الأركان على وقائع الدعوى نجد أن دعوى المدعي (المميز) تحققت فيها كافة هذه الأركان أولاً بإثراء المدعى عليها من خلال إصلاح الباص العائد ملكيته إليها وثانياً بافتقار المدعي بدفعه أموالاً لغاية إصلاح الباص وثالثاً بقيام علاقة السببية بين افتقار المدعي وإثراء المدعى عليها وانعدام السبب القانوني لهذا الإثراء لعدم وجود علاقة عقدية بينهما وحيث توصلت محكمة الاستئناف بقرارها المميز إلى نتيجة مغايرة لما توصلنا إليه فتغدو أسباب التمييز واردة على الحكم المميز وتوجب نقضه)

سادساً: الخاتمة

يعد الإثراء بلا سبب بمثابة وضع قانوني نظمه المشرع بهدف المحافظة من خلاله على حقوق الشخص المفتقر، وذلك بمنحه مكنة المطالبة بقيمة ما افتقر به أو قيمة ما أثرى به غيره بدون وجه حق، وهو ما يمثل وجه من أوجه العدالة التي يفرضها القانون وتحتمها البديهة والمنطق.

كتابة: أحمد عبد السلام

[1] – علي سليمان – النظرية العامة للالتزام: مصادر الالتزام في القانون المدني الجزائري – الطبعة الخامسة – ديوان المطبوعات الجامعية – الجزائر – 2003 – ص264.

[2] – جميل الشرقاوي – الإثراء بلا سبب على حساب الغير كمصدر للالتزام في القانون المصري – دار النهضة العربية مصر – بدون عام نشر – ص53.

[3]– جلال عدوي ومحمد لبيب – مصادر الالتزام: دراسة مقارنة بين القانونين المصري واللبناني – الدار الجامعية – لبنان – 1985 – ص394.

[4] – سمير تناغو – نظرية الالتزام – ط1 – منشأة المعارف – مصر – 1975 – ص354.

[5] – عبد الرزاق السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني: مصادر الالتزام – ج1 – دار إحياء التراث العربي – لبنان – بدون عام نشر – ص 1133.

[6] – جميل الشرقاوي – المرجع السابق – ص 140.