مسرح الجريمة
مسرح الجريمة هو مستودع سر الجريمة لاحتوائه على الآثار المادية والأدلة الجنائية، وهو الشاهد الصامت على ارتكاب الجريمة وتحديد مرتكبيها، وهو حجر الزاوية في كشف الغموض، فيُعتبر هو الحلقة الأهم بالنسبة للمحقق لكونه مستودع السر الأساسي لمضمون جميع الأدلة سواء كانت أدلة الإدانة أو أدلة البراءة.
ومسرح الجريمة يُشكل نقطة إطلاق البحث والتحري، وأول محطات المحقق في بحثه عن الحقيقة، ويقع على المحقق دور استنطاق مسرح الجريمة لينطق عما وقع به من أحداث إجرامية، بوصفة المكان الذي يحتوي على الآثار والأدلة المادية وكذلك الأدلة المعنوية والقرائن والدلائل، فالجاني لا يستطيع مهما بلغت قدراته ومهاراته وذكاؤه أن يتفادى انطباعاته وآثاره المادية على مسرح الجريمة، مثل الرائحة والعرق والآثار ضئيلة الحجم التي تحتاج لأجهزة حديثة لإظهارها.
النطاق المكاني لمسرح الجريمة :
النطاق الزماني لمسرح الجريمة :
وفي مقالنا سنتطرق لتعريف مسرح الجريمة، والنطاق المكاني والزماني لمسرح الجريمة، وأنواع مسرح الجريمة، ودور مسرح الجريمة.
تعريف مسرح الجريمة :
اختلف فقهاء علم الإجرام حول تحديد معنى الجريمة وتعرفه فنرى أن البعض قد قصره على مكان ارتكاب الجريمة، ويرى البعض الآخر أنه يمتد إلى الأماكن المحيطة به وأماكن الإخفاء وغيرها، ووردت عدة تعاريف بهدف إعطاء تعريف محدد لمسرح الجريمة ، بيد أن أراء فقهاء علم الإجرام اختلفت حول تحديد مسرح الجريمة وتعريفه، فالبعض قصره على مكان ارتكاب الجريمة، ومنه من مده إلى سائر الأماكن التي تحوي الأدلة الجنائية، وتساعد المحقق على إظهار الحقيقة.
والبعض الآخر يرى ضرورة التوسع في مفهوم مسرح الجريمة، بحيث يحدد بانه المكان أو مجموع الأماكن التي تشهد مراحل الجريمة من إعداد وتحضير وتنفيذ، والذي تنبثق منه كافة الأدلة، بحيث أنه ليس من الضرورة أن يكون مسرح الجريمة الابتدائي هو مكان وقوع الجريمة، فالجريمة قد تحدث في مكان يصاب فيه الضحية، ثم يتحامل على نفسه ويتحرك من ذلك المكان إلى مكان آخر يلفظ فيه أنفاسه الأخيرة، أو قد ينقله الجاني بعد قتله إلى مكان آخر محاولًا إخفاء جثمانه حتى لا يكتشف أمره، وبالتالي فمكان تواجد الجثة يُعتبر مسرح الحادث الابتدائي، والذي قد يقود إلى مسرح الجريمة الحقيقي بعد فحصه وتقصي كافة الآثار العالقة به.
وقد عرف الدكتور منصور عمر المعايطة مسرح الجريمة بأنه : نقطة البداية المهمة بالنسبة إلى سلطات التحقيق في مجال كشف الجريمة وإزالة غموض الوفاة، فهو حسب رأي المختصين يعتبر مستودع أسرار الجريمة الذي قد تنبثق منه الأدلة كافة التي تؤدي في النهاية إلى كشف الحقيقة.
وعرف الدكتور هشام عبد الحميد فرج مسرح الجريمة بانه : يمثل أحد الأضلاع الأربعة للجريمة (الجاني ومجني عليه وأداة جريمة ومسرح)، فهو مستودع أسرارها فعليه تقع الجريمة. وعرفه آخر بأنه : مسرح الجريمة هو المكان الذي وقعت فيه جريمة أو أكثر. وفي تعريف آخر ورد مسرح الجريمة بأنه : هو أي مساحة، أو حيز، أو مفردة، أو مادة تحتوي أو تتضمن دليل مادي، أن هناك جريمة تم اقترافها أو تربط شيء أو شخص بتلك الجريمة.
وبعض الفقه يُعرف مسرح الجريمة بأنه هو المكان الذي يضم معظم الآثار، ويمنح الباحث الجنائي الخيوط الأولى في البحث عن الجاني ويكشف النقاب عن الأدلة المؤيدة للاتهام، فهو المكان الذي يتيح إعادة تصوير الجريمة مرة ثانية وتمثيل أحداثها كما وقعت.
ويتضح من خلال ما سبق أن مسرح الجريمة هو أي فضاء مرتبط بالمكان أو الزمان والمادة ارتكب فيه عمل أجرامي ويضم الأدلة الجنائية التي من شأنها أن توصلنا إلى المرتكب الفعلي والحقيقي للجريمة، ويعتبر تدبيره نقطة انطلاق كل التحقيقات والتحريات العلمية والتقنية، وبذلك فانه يعد ذو أهمية بالغة لكونه يوصل المحقق إلى فهم ثم فك ألغاز الجريمة، ومن ثم تحديد هوية الجاني أو الجناة.
النطاق المكاني لمسرح الجريمة :
اتفق خبراء البحث الجنائي بعديد دول العالم على أن مسرح الجريمة أو مكان الجريمة هو مستودع سرها، وذلك لاحتوائه على الآثار المادية والأدلة الجنائية التي تؤدي إلى كشف الحقيقة، مما دفع البعض منهم إلى التوسع في تحديد نطاق مكان ارتكاب الجريمة، فأمتد به إلى الأماكن المجاورة من طُرقات وأماكن عامة للبحث عن الآثار المادية المتعلقة بالحادث.
فمن خلال ما تم عرضه من تعريفات رأينا أن هناك اتجاهات متعددة حول تحديد مفهوم الجريمة فالبعض اعتبره المكان الذي يحوي الأدلة الجنائية، وقد يتضمن مكانًا واحدًا أو عدة أماكن، سواء كانت متصلة أو كانت متباعدة، وذلك وفقًا لنوع الجريمة المرتكبة.
وهناك من يعتبر الطُرق الموصلة لمسرح الجريمة والأماكن المحيطة به وأماكن إخفاء متحصلات الجريمة أو آثارها المادية تابعة بدورها إلى مسرح الجريمة، في حين يحدد مسرح الجريمة أيضًا بمكان ارتكاب الجريمة، وهو ما قصده المجرم عند اقترافه الجريمة، وبقاؤه في فترة الارتكاب أو يلقي فيه بالمجني عليه، ثم يرحل بعد أن حقق هدفه الإجرامي أو يفشل في تحقيق هدفه، في حين يعبر البعض الآخر عن مسرح الجريمة بأنه الشاهد الصامت على مرتكب الجريمة.
ومن الممكن أن يدخل ضمن النطاق المكاني لمسرح الجريمة أيضًا مكان الجريمة الذي يتعدد وفقًا للعديد من الاعتبارات من بينها أماكن بوسائل النقل كأتوبيسات النقل العام، والقطارات ، والمتاجر، أو المساكن كبناء تحت الإنشاء ، أو شقة، ناطحة سحاب، منزل، مزرعة ، غيرها من الأماكن، ويُمكن القول أخيرًا أنه يظل المحل المكاني للجريمة أمرًا غير محدد بشكل دقيق.
النطاق الزماني لمسرح الجريمة :
لا يوجد زمن معين الإجراء لانتقال ضباط الشرطة القضائية إلى مسرح الجريمة، وإنما يتوجب على ضابط الشرطة القضائية الذي شعر بحالة تلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة فورًا وأن ينتقل في الحال إلى مكان ارتكابها لإجراء المعاينات المفيدة، وإذا استلزم الأمر القيام بمعاينات لا تقبل التأخير، فلضابط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص يراه مؤهلًا، بشرط أن يعطي رأيه بما يمليه عليه الشرف والضمير.
ويُعتبر تحديد وقت وقوع الجريمة من أهم العناصر الذي يستهدفها الباحث الجنائي ، فإن لم يحدد القانون زمنًا معينًا لانتقال ضباط الشرطة القضائية إلى مسرح الجريمة، ولكن يُفضل الإسراع في إجراء المعاينة اللازمة من طرف ضباط الشرطة القضائية عقب ارتكاب الجريمة، فالانتقال الفوري يمنح للباحث الجنائي العثور على آثار الجريمة ومعالمها المختلفة بصورتها الأصلية قبل أن يطئها أي نوع من أنواع التلاعب للحفاظ على الأدلة الجنائية، أو سماع المصرحين قبل مغادرة المكان، أو سماع المجني عليه قبل مفارقته الحياة.
صنف البعض مسرح الجريمة إلى عدة أنواع، مكان مغلق، مكان مكشوف، وقد يكون مسرح الجريمة مكان مختلط. والسبب في تسمية مسرح الجريمة المفتوح تعود لكونه يكون في الهواء الطلق أي مكشوفًا، من أمثاله نجد : طريق، حديقة، الحقول، الطريق، والشواطئ، شارع، موقف للسيارات، أو مكانًا زراعيًا، أو صحراويًا، أو سهلًا مرتفعًا ،أو منخفضًا.
ومسرح الجريمة المفتوح بحكم الطبيعة الجغرافية له فهو يتميز بمجموعة من الخصائص، تُساعد في تتبع آثار الجاني أو الجناة، باستعمال الملاحظة والتتبع.
كما أن مسرح الجريمة المفتوح يتطلب التعامل اليقظ والحذر وسرعة في الانتقال مخافة اندثار الأدلة أو طمسها، نظرًا لتعرضه لتقلبات الطقس، وتدخل الفضوليين من الناس لمعرفة ما يدور.
والمسرح المغلق تعود تسميته بهذا الاسم لوجوده في مكان مغلق تمامًا ومن أمثاله نجد : حمام، غرفة نوم، المطبخ، والمباني الصناعية، والأسواق التجارية، وغيرها، وله خصوصية غاية في الأهمية تتمثل في انغلاقه وعدم انفتاحه على العامة الا المقربين في محيط الجريمة مما يُسهل عملية الاهتداء إلى ظروف الجريمة وفاعلها.
والنوع الثالث من مسرح الجريمة وهو مسرح الجريمة المختلط وأطلق عليه تلك التسمية لكونه يجمع ما بين مسرح الجريمة المفتوح ومسرح الجريمة المغلق، بحيث قد يقع جزء من الجريمة في غرفة النوم، والجزء الآخر خارج المنزل في الحديقة مثلًا، ومن ثم أطلق عليه مسرح الجريمة المختلط.
ورغم تعدد أنواع مسرح الجريمة إلا أن قيمته واحدة فله أهمية جنائية كبيرة في تبيان وقوع الجريمة ومكان فعلها المادي، فمسرح الجريمة يُعتبر المصدر الرئيسي للأدلة المادية التي يعتمد عليها في إدانة الجناة سواء كان مفتوح أو مغلق أو مختلط.
ولمسرح الجريمة أهمية لا يُمكن تجاهلها في كشف وقوع الفعل الإجرامي من عدمه، وكونه جنائيًا، أو غير جنائي، أو عمديًا، أو غير عمدي، كما أن مسرح الجريمة يلقي الضوء على الأماكن الذي يتعين تفتيشها، والأشياء اللازم البحث عنها وضبطها أو ربما حجزها، كما أن مسرح الجريمة يبين ظروف الجريمة وملابساتها وعلاقة المتهم بها أو تاريخ ارتكابها.
دور مسرح الجريمة :
نظرية ” تبادل المواد ” أو ” قاعدة لوكارد ” تعتبر هي الأساس العلمي للبحث عن الأدلة في مسرح الجريمة الذي يُعتبر من أهم عناصر التحقيق الجنائي، فهي تنص على أنه : ” عند تلامس أي جسمين لبعضهما البعض فإنه يوجد دائمًا انتقال للمادة من كليهما للآخر، وأن كل مادة تترك أثرًا على الأخرى “.
وبتطبيق تلك القاعدة في إطار البحث والتحقيق الجنائي على مسرح الجريمة نجد أن كل عنصر من عناصر الجريمة الثلاثة يترك آثاره المادية على بعضها البعض مشكلًا بذلك الأدلة المادية الضرورية للتحقيق وبالتالي الاتهام.
فمسرح الجريمة يلعب دورًا هامًا من الناحية الجنائية وذلك في تبيان وقوع الجريمة، ومكان فعلها المادي، حيث يُعتبر المصدر الرئيسي للأدلة المادية المُعتمد عليها في إدانة مرتكب الجريمة، كما أنه يُساعد في تحديد الأسلوب الإجرامي ووقت ارتكابه، والعديد من المعلومات التي من شأنها أن تفيد سير عملية التحقيق، ولمسرح الجريمة أهمية كبيرة فيما يُسمى بإعادة تمثيل الجريمة، والتي يأمر بها قاضي التحقيق في بعض القضايا والتي غالبًا ما تكون جنايات، وفي بعض الأحيان قد تكون جنح، فالإعادة تجعل الجاني يعترف بجرمه الذي اقترفه.
وقاضي التحقيق هو الجهة التي يعود إليها الأولوية في القيام بإجراءات البحث والتحري إذا حضر إلي مكان الجريمة كل من ممثل النيابة العامة وضابط الشرطة القضائية، ويأمر قاضي التحقيق بإعادة تمثيل الجريمة عندما يحتمل تنفيذ الجريمة عديد التأويلات بناء على تصريحات متناقضة للمتهم، مع تضاربها مع تصريحات الشهود، فحضور المتهم أمر ضروري حتى تتحقق المواجهة ببينه وبين مسرح الجريمة لأن ذلك قد يسوقه للاعتراف بارتكاب الجريمة، لأسباب نفسية نتيجة شعوره بالذنب أو ظهور علامات عدم الارتياح أو الارتباك والتي تفضح تاريخه مع مسرح الجريمة.