أحكام الغلط كعيب من عيوب الإرادة

أحكام الغلط كعيب من عيوب الإرادة

يدخل الغلط في عداد العيوب التي تلقي بتأثيرها القانوني على العقود من حيث الصحة أو البطلان، لاسيما وأن العقود من التصرفات التي يعتد فيها بشكل رئيسي بتوافر ركن الرضا والإرادة الصحيحة حتى يكون إبرامها صحيحاً وقانونياً وترتب آثارها القانونية، لذلك يمثل الغلط أحد أهم وأدق العيوب التي قد تؤثر على صحة التصرفات التي من الشخص التي يكون هذا الغلط مسيطراً على حالته النفسية.

وتثور بشأن الغلط بمفهومه هذا العديد من التساؤلات، ومن أهم تلك التساؤلات ما هو المقصود بالغلط؟ وما هي مبرراته وأنواعه؟ وما هي الشروط التي يلزم توافرها لتتحقق حالة الغلط؟ وما هي الآثار القانونية التي تترتب على تحقق الغلط؟ وغيرها من التساؤلات التي خصصنا هذا المقال لكي نضع لها ما يناسبها من إجابات.

 

أولاً: التعريف بمفهوم الغلط

ثانياً: مبررات الأخذ بالغلط كعيب من عيوب الإرادة

ثالثاً: صور الغلط

رابعاً: الشروط اللازم توافرها لتحقق حالة الغلط

خامساً: الآثار القانونية لتحقق الغلط

سادساً: نماذج لأحكام القضاء الأردني ذات العلاقة

سابعاً: الخاتمة

 

أولاً: التعريف بمفهوم الغلط

على الرغم من اتفاق الفقه القانوني على مدلول الغلط إلا أنه اختلف في تعريفه، وإن كان هذا الاختلاف مجرد اختلاف في الظاهر وليس في المضمون، وبتعدد التعريفات التي وضعت للغلط يمكننا أن نذكر أهما وأبرزها في النقاط الآتي بيانها:

  • الغلط هو ما يتحقق في ذهن الإنسان من توهم يصور له الأمور على نحو يخالف الحقيقة الفعلية له فيدفعه إلى إبرام العقد أو القيام بالتصرف القانوني.
  • وعرف الغلط أيضاً بأنه حالة نفسية وذهنية تتحقق لدى الشخص تجعله يتصور الأمور بشكل يتعارض مع الواقع الخاص بها، وقد يتحقق في صورة واقعة غير صحيحة يظن الإنسان أنها صحيحة، أو في صورة واقعة صحيحة يظن الإنسان أنها غير صحيحة[1].

  • كما عرف بأنه الاختلاف الحاصل بين ما تم التعبير والتصريح عنه وبين ما كان يهدف المتعاقد أو المتصرف إلى تحقيقه بحيث لو كان على علم بالحقيقة ما كان ليقدم على إبرام التعاقد أو إجراء التصرف[2].

  • وعرف البعض الغلط بأنه الاختلاف وعدم التطابق بين ما يستقر في نية الشخص أو إرادته الباطنة وبين إرادته الظاهرة التي يعبر بها[3].

ومن جماع هذه التعريفات يمكننا أن نستخلص المدلول المتفق عليه فيما بينها بشأن الغلط، ويتمثل هذا المدلول في أن الغلط هو حالة نفسية وذهنية تتحقق لدى الشخص بحيث تجعله يتصور الأمور على خلاف حقيقتها وتكون تلك الحالة هي الدافع الرئيسي الذي يجعله يقدم على التعاقد أو التصرف.

ثانياً: مبررات الأخذ بالغلط كعيب من عيوب الإرادة

الغلط باعتباره أحد العيوب التي تصيب الإرادة تبرره في وصفه هذا عدة عوامل، فهو من ناحية يستهدف إسباغ الحماية القانونية الكافية والمناسبة على إرادة الشخص عند إبرامه لعقد أو قيامه بتصرف ضد أي شائبة قد تشوبها وذلك خلال تكوينها، ومن ناحية أخرى يعد عاملاً رئيسياً من عوامل الحفاظ على الاستقرار في المعاملات، حيث أن إصابة الإرادة بعيب الغلط بغض النظر عن نوعه يجعل التعاقد أو التصرف الذي أبرمه وقام به صاحبها يجعله في وضع غير مستقر وعرضة لجزاء قانوني قد يهدد وجوده تماماً.

ويمكننا القول بأن المبررات التي تجعل من الغلط عيب من عيوب الإرادة أنه يحيد بإرادة الشخص عن طريق السلامة والصحة، فهو يضع الإرادة في مسار يختلف عن المسار المقصود لها وذلك عن جهل بذلك، فلا يكون الشخص على علم بحقيقة ما تتجه إليه إرادته ويظن بأنها تتجه إلى أمر آخر يتوهم وجوده على غير الحقيقة، ومن المنطقي ألا يكون ذلك أمراً متاحاً ويقره القانون لأنه يعد وجه من أوجه إباحة التحايل والتدليس التي يحظرها القانون بشكل كامل.

ثالثاً: صور الغلط

لا يقتصر الغلط الذي يعيب الإرادة على صورة واحدة فقط ولكنه يظهر في إحدى الصور التي نص عليها القانون المدني الأردني وجعل لكل منها حكماً خاص به، الصورة الأولى هي الغلط في الواقع والصورة الثانية هي الغلط في القانون.

1- الغلط في الواقع

يقصد بالغلط في الواقع الغلط الذي يصيب أحد الأمور التي تتعلق بالتعاقد نفسه، كما هو الحال في غلط المتعاقد في إحدى الصفات التي تخص محل التعاقد، أو في شخص من يقوم بالتعاقد معه، شريطة أن تكون تلك الصفة أو شخصية المتعاقد الآخر لها اعتبار في إبرام هذا التعاقد، وعلى سبيل المثال للغلط في صفة من صفات محل التعاقد هو أن يقوم شخص بالتعاقد على شراء قطعة مجوهرات معتقداً أن المادة المصنوعة منها هي الذهب، ويكون اعتقاده هذا هو الباعث له على التعاقد، ثم يتبين له بعد التعاقد أنها مصنوعة من النحاس، أما الغلط في شخص من يقوم بالتعاقد معه كما لو تعاقد مع شخص على رسم لوحة فنية ظناً منه أنه رسام مشهور ثم يتضح له بعد ذلك أنه ليس الفنان الذي أراد التعاقد معه.

والغلط في هذه الصورة يتعلق بصفة جوهرية سواء كانت صفة جوهرية في الشيء محل التعاقد كما ذكرنا في المثال الخاص بقطعة المجوهرات حيث كانت الصفة الجوهرية هي المادة المصنوع منها الشيء محل التعاقد، أو صفة جوهرية في شخص المتعاقد الآخر كما هو الحال في مثال اللوحة الفنية، والصفة الجوهرية في الحالتين كانت هي الباعث الذي دفع المتعاقد الذي أصيبت إرادته بعيب الغلط إلى إبرام هذا التعاقد.

وقد صنف المشرع الأردني ثلاث صور من صور الغلط تحت طائفة الغلط في الواقع، وتتمثل تلك الحالات في:

  • الغلط في ماهية العقد أو شرط من شروطه الخاصة بالانعقاد أو في محله، ومن أهم الأمثلة على ذلك أن ينصب الغلط على الإيجاب والقبول لدى المتعاقد كما هو الحال في أن يستهدف بإيجابه إبرام عقد ما فيصدر القبول لإنشاء عقد آخر نتيجة خطأ في فهم هذا الإيجاب وهدفه.
  • الغلط في أمر مرغوب وهو الغلط الذي يشار به إلى الغلط في صفة الشيء المتعاقد عليه أو في شخص المتعاقد الآخر أو في صفة من صفاته الجوهرية، وقد سبق وأن ذكرنا آنفاً بعض الأمثلة على ذلك النوع من الغلط.
  • الغلط في الحساب أو الكتابة وهو الغلط المادي الذي يرد في اللغة المحرر بها العقد، أو في الأرقام المكتوبة فيه.

2- الغلط في القانون

الغلط في القانون يقصد به الغلط الذي ينصب على أحكام القانون التي تخص أحد الأمور المتعلقة بالتعاقد المبرم، كما هو الحال في توهم أو ظن كلا المتعاقدين أو أحدهما أن التعاقد المبرم بينهما يخضع لقانون يحكم فيه بحكم ما، في حين يكون الحكم الذي يتضمنه القانون مخالفاً لهذا الحكم الذي توهمه المتعاقد أو المتعاقدان.

وعلى سبيل المثال لذلك أن يقوم شخص بالتعاقد على شراء مساحة من الأرض ظناً منه بأن القانون يجيز له أن يقيم فيها بناء، في حين يكون القانون متضمناً لأحكام تحظر البناء على أراضي منها الأرض المبيعة[4]، أو كما ذكرت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني في مادتها رقم (112) من مثال أن يشتري شخص نصف منقول فيطالبه مالك النصف الآخر بالشفعة فيسلم له اعتقادا منه ان الشفعة جائزة في المنقول ثم يتبين له ان لا شفعة في المنقول.

وقد تطلب المشرع الأردني توافر شروط الغلط في الواقع في حالات الغلط في القانون، وهو ما يجعل للغلط في القانون نوعاً من الخصوصية التي تميزه عن الغلط في الواقع بصوره المتعددة، ويؤيد ذلك ما يلي:

  • أن المشرع الأردني قد خصص نص قانوني مستقل للغلط في القانون، وهو ما يوضح أنه يقر لهذه الصورة من الغلط بكونها تتمتع بقدر كبير من الخصوصية التي تجعلها مختلفة عن صور الغلط في الواقع.
  • الاختلاف بين الشروط التي يتطلبها تحقق حالة الغلط في القانون والتي تختلف عن الشروط اللازم توافرها لتحقق حالة من حالات الغلط في الواقع، لاسيما وأنه قد تتحقق في الغلط في القانون الشروط الخاصة بتحقق الغلط في الواقع وعلى الرغم من ذلك لا يتم الاعتداد بما يترتب على ذلك من آثار، ويعزى ذلك إلى أسباب خاصة بالغلط في القانون ذاته ولا تتعلق بالغلط في الواقع، كما هو الحال في أن يكون القانون مشتملاً على نص قانوني يستبعد إعمال الغلط في القانون في مثل تلك الحالة.

رابعاً: الشروط اللازم توافرها لتحقق حالة الغلط

استلزم القانون توافر شروط عامة يتحقق بتوافرها حالة الغلط في الواقع، ويشترك الغلط في القانون مع الغلط في الواقع في وجوب تحقق هذين الشرطين بالإضافة إلى بعض الشروط الأخرى التي تخص الغلط في القانون، مما يمكننا معه أن نعتبر أن هناك شروط مشتركة يلزم توافرها لتحقق الغلط بنوعيه، بجانب شروط خاصة يلزم تحققها أيضاً لتحقق الغلط في القانون.

1- الشروط المشتركة

كما سبق وأن أوضحنا فإن الشروط المشتركة هي في الأصل الشروط اللازم توافرها لتحقق حالة الغلط في الواقع، وأيضاً يلزم توافرها – بجانب شروط أخرى خاصة – لتحقق حالة الغلط في القانون، وهذه الشروط هي في حقيقتها شرطين أساسيين، الشرط الأول هو أن يكون الغلط جوهرياً، والشرط الثاني هو أن يكون الغلط متصلاً بالمتعاقد الآخر.

أ- الشرط الأول: أن يكون الغلط جوهرياً

أول الشروط اللازم توافرها في حالة الغلط في الواقع أو في القانون على حد سواء هو أن يكون الغلط جوهرياً، والغلط الجوهري هو الغلط الذي يعد بمثابة الدافع الرئيسي والباعث الأساسي لرضا المتعاقد بإبرام التعاقد، بحيث أن المتعاقد لم يكن ليقدم على هذا التعاقد لولا تحقق حالة الغلط تلك، وقد اعتبر الفقه القانوني أن تبين مدى جسامة الغلط يمكن بالاستناد إلى المعيار الذاتي[5]، أي معيار مدى تأثير الغلط على المتعاقد في إبرامه للعقد، فلو كان المتعاقد سيبرم العقد سواء وقع في هذا الغلط أو لم يقع فيه فلا يعد جوهرياً، أما إذا كان المتعاقد ما كان ليبرم التعاقد لولا أن وقع في هذا الغلط فإنه يعد غلطاً جوهرياً، وهذا المعيار الذاتي يحدد الغلط ومدى تأثيره من شخص لآخر، بحيث أن الغلط قد يعد جوهرياً لدى شخص في حين يعد ذات الغلط غير جوهري بالنسبة لشخص آخر، فهو يستند إلى تقدير المتعاقد لأهمية الأمر الواقع عليه الغلط ومدى تأثيره على إبرامه من عدمه[6].

وهو ما يترتب عليه أنه على قاضي الموضوع أن ينظر في تحديد مدى جسامة الغلط وجوهريته لكل حالة من الحالات التي تعرض عليه على حدة، ووفقاً للظروف والأحوال الخاصة بكل حالة، والبحث في الحالة النفسية الخاصة بالمتعاقد الذي وقع في الوهم الذي خلفه هذا الغلط، وذلك ليتبين ما إذا كان هذا الوهم هو العنصر الرئيسي في إبرامه للعقد أم لا.

ب- الشرط الثاني: أن يكون الغلط متصلاً بالمتعاقد الآخر

أما ثاني الشروط المشتركة بين الغلط في الواقع والغلط في القانون هو أن يكون هذا الغلط متصلاً بالمتعاقد الآخر، حيث لا يعد الغلط متحققاً متى كان جوهرياً فقط، ولكن يلزم أيضاً أن يكون هذا الغلط الجوهري متصلاً بالمتعاقد الأخر، ويقصد بذلك أن يكون المتعاقد الآخر على علم وبينة من هذا الخطأ الذي أصاب المتعاقد معه.

وقد عبر الفقه القانوني عن هذا الشرط أيضاً بمسمى آخر وهو أن يكون الغلط داخلاً في نطاق التعاقد، وتم تفسيره بأنه يجب أن يكون المتعاقد الآخر على علم بالأمر المرغوب فيه الذي يخالف الحقيقة والذي دفع المتعاقد معه لإبرام هذا التعاقد، وقد اعتبر الفقه أن هذا الشرط يكون متحققاً في أحد صورتين، الأولى هي أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع في ذات الغلط الذي وقع فيه المتعاقد معه وكان عرضة لذات التوهم والاعتقاد الخاطئ، والثانية هي أن يكون المتعاقد الآخر على علم بهذا الغلط أو كان في مقدوره أن يعلم به.

وبناء على ما سبق فإنه لكي يتمكن المتعاقد الذي وقع ضحية للغلط من التمسك بهذا الغلط فيجب عليه أن يقوم بإثبات واقعتين أساسيتين وهما:

  • أن ذلك الغلط كان هو الباعث الرئيسي والدافع الأساسي له على إبرام هذا التعاقد.
  • أن ذلك الغلط كان بعلم المتعاقد الآخر أو باشتراكه في تحققه، أو كان على الأقل قادراً على العلم بوجوده وبتحققه.

وعلى الرغم من أن المشرع الأردني لم ينص على شرط أن يكون الغلط متصلاً بالمتعاقد صراحة في القانون المدني، إلا أنه من اليسير أن نستدل على اشتراطه أن يكون الغلط داخلاً في نطاق التعاقد من خلال ما جاء بنص المادة رقم (151) من القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976، حيث نصت تلك المادة على أنه (لا يعتبر الغلط إلا فيما تضمنته صيغة العقد أو دلت عليه الملابسات وظروف الحال أو طبائع الأشياء أو العرف) [7]، وهو ما يتبين منه أن المشرع قد تطلب في الغلط بجانب شرط وقوعه في أمر مرغوب فيه شرط آخر وهو أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر، ويستخلص ذلك من خلال ما نص عليه في المادة المذكورة من أن الغلط الجوهري يتم الاستدلال عليه إما عن طريق صيغة العقد أو ملابسات الحال وظروفه أو طبائع الأشياء أو العرف، فدخول الغلط في نطاق التعاقد لا يحدث إلا من خلال اشتراك أو علم أو قدرة المتعاقد الآخر على العلم بهذا الغلط.

2- الشروط الإضافية الخاصة بالغلط في القانون

بجانب الشرطين اللازم تحققهما لقيام حالة الغلط في الواقع فإن الأمر يستلزم تحقق بعض الشروط الأخرى بجانبهما لقيام حالة الغلط في القانون، وهذه الشروط وإن كانت لم ترد بنص صريح في القانون المدني إلا أنها قد تقررت من قبل آراء الفقه وأحكام القضاء الأردني، ويمكننا أن نحصر تلك الشروط في:

  • أن يعذر المتعاقد الذي يتمسك بالغلط في القانون.
  • أن يكون هدفه هو تطبيق القانون وليس استبعاد تطبيقه.
  • ألا يكون الغلط منصباً على قاعدة قانونية هناك خلاف في تفسيرها.
  • ألا تتضمن القاعدة القانونية حكم باستبعاد الغلط في القانون.

أ- الشرط الأول: أن يعذر المتعاقد الذي يتمسك بالغلط في القانون

أول الشروط الخاصة بالغلط في تطبيق القانون هي أن يكون المتعاقد الذي يتمسك بالغلط لديه عذر يبرر له التمسك ذلك الغلط، وبمعنى آخر أن يكون هذا المتعاقد المبرر السائغ الذي يتيح له التمسك بالغلط، فعلى سبيل المثال لا يتم قبول التمسك بالغلط في القانون من قبل من هو متخصص فيه كالمحامين أو القضاة، بل ولا يقتصر الأمر على المتخصصين بل يمتد إلى الأشخاص العاديين متى كان الغلط يتعلق بقاعدة قانونية متعارف عليها وشائعة بصورة لا يمكن معه إنكار العلم بها ومعرفتها.

وحتى لا يكون هناك لبس وخلط بين العذر الذي يتيح التمسك بالغلط في القانون وبين الجهل بالقانون الذي يحظر التمسك به طبقاً لقاعدة “لا يعذر الشخص بجهله بالقانون” فإننا يجب أن نوضح نقطة محورية هامة، فالمقصود بعذر المتعاقد في التمسك بالغلط في القانون هو الاعتقاد الخاطئ لديه بوضع قانوني غير صحيح، بحيث يكون هذا المتعاقد في موقف أو حالة لا تتيح له القدرة على أن يحصل على الحكم القانوني الصحيح الذي يخضع إليه تصرفه وتعاقده، أما إذا كان في حالة يمكنه معها أن يتحصل على العلم بالحكم القانوني لتعاقده وينكل عن ذلك، فعندئذ لا يحق له أن يتمسك بالغلط في القانون نظراً لما بدر عنه من تقصير ويكون ذلك جزاء لهذا التقصير[8].

ويؤيد ذلك ما ورد بالمادة رقم (112) من المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني في شرحها للمادة رقم (154) من القانون، حيث ورد بها أن (الجهل بالقانون يصلح عذراً إذا لم يصحب الجهل تقصير، فمن جهل القانون وكان مقصراً في هذا الجهل حوسب على جهله ولم يعتد بخطئه في القانون، ومن جهل القانون ولم يكن مقصراً في هذا الجهل عذر لجهله واعتد بخطئه)، وورد بها أيضاً أن (فالأصل أن الجهل بالقانون لا يكون عذراً إلا إذا قامت ملابسات خاصة تنفي تهمة التقصير المفروضة في جانب من يجهل القانون وإذا كان هناك شيء من التساهل في الحدود فلأن الحدود تدرأ بالشبهات)، ومن جماع ذلك يتضح موقف المشرع الأردني من الغلط في القانون، وحرصه الشديد في وضع الحد الفاصل بين الغلط في القانون والجهل بالقانون.

ب- الشرط الثاني: أن يكون هدفه هو تطبيق القانون وليس استبعاد تطبيقه

ننتقل إلى ثاني الشروط الخاصة بتحقق حالة الغلط في القانون ألا وهو أن يكون هدف المتعاقد الذي يتمسك بهذا الغلط هو أن يتمسك بتطبيق أحكام القانون وليس المطالبة باستبعادها، ويعد هذا الشرط أيضاً من أحد أهم الأمور التي تعضد من الحد الفاصل بين الغلط في القانون والجهل بالقانون، لاسيما وأن الجهل بالقانون يستهدف منه الشخص أن يفلت من الخضوع لأحكام القانون الذي يزعم الجهل به، بينما التمسك بالغلط في القانون يستهدف منه صاحبه أن يحصل على التطبيق القانوني الصحيح على تصرفه.

ومن أهم النماذج التي يمكن من خلالها توضيح هذا الشرط ما يقوم به الشخص الوارث من بيع لنصيبه في الإرث ظناً منه أن القانون يورثه ربع التركة فقط، إلا أنه يرث في واقع الأمر نصف التركة، فيحق له عندئذ طلب فسخ البيع للغلط في القانون لكونه لا يطالب باستبعاد القانون الخاص بالميراث ولكنه يطالب بتطبيقه.

ج– الشرط الثالث: ألا يكون الغلط منصباً على قاعدة قانونية هناك خلاف في تفسيرها

أما ثالث الشروط فيتمثل في ألا يكون الغلط منصباً على قاعدة قانونية يثوى خلاف حول التفسير الصحيح لها، وهو شرط هام وجوهري نظراً لأن النصوص القانونية التي تقرر القواعد القانونية والتي يتضمنها أي قانون تخضع دائماً للتفسير، سواء كان هذا التفسير قانونياً أو قضائياً أو فقهياً، وبالطبع فإن هناك الكثير من القواعد التي تكون محل خلاف بين أكثر من تفسير، لاسيما وأنه مهما كانت صياغة القاعدة القانونية أو النص القانوني متقنة إلا أن ذلك لا يمنع من تأويلها إلى أكثر من مقصد ومغزى ومضمون، فيكون الحل الفاصل هو اللجوء إلى تفسيرها من الجهة المختصة بذلك.

 

وبالتالي فإنه متى كانت القاعدة القانونية التي ينصب عليها الغلط من القواعد التي يدور حولها خلاف في شأن تفسيرها، فإن ذلك يحول دون التمسك بالغلط في القانون، ويرجع ذلك إلى أن الاختلاف في تفسير القاعدة القانونية ينتج عنه وجود أكثر من تفسير لها، فإذا استند المتعاقد على أحد تلك التفسيرات في تعاقده الذي أبرمه وبعد ذلك اتضح أن هذا التفسير غير صحيح، فلا يجوز له عندئذ أن يتمسك بالغلط في القانون لعدة مبررات، وتتمثل تلك المبررات فيما يلي:

  • يتمتع التفسير القضائي الذي يصدر من المحاكم بحجية نسبية لا تتعدى حدود الدعوى الصادر فيها هذا التفسير والخصوم في تلك الدعوى، ويرجع ذلك إلى أن الأحكام التي تصدرها المحاكم لا تتمتع بصفة التشريع، وبالتالي لا يعد التفسير الصادر منها قانوناً حتى يمكن أن يتم التمسك بخصوصه بالغلط في القانون.
  • وجود أكثر من تفسير للقاعدة القانونية يضع احتمالات بصحة أياً منها، وبالتالي يحول دون اعتبار الغلط فيها بمثابة عيب من عيوب الإرادة، حيث أن المتعاقد عند إبرامه للتعاقد مستنداً إلى تفسير من هذه التفسيرات يعد متحملاً لمغبة ما قد يحدث في حالة ثبوت خطأ هذا التفسير باعتباره تفسير ضمن عدة تفسيرات أخرى مختلفة.
  • في حالة إقرار مسألة التمسك بالغلط في القانون في حالة القواعد القانونية المختلف حول تفسيرها فإن ذلك يترتب عليه إشكالية قانونية غير مقبولة، حيث أن ذلك الإقرار سينتج عنه أن ظهور أي تفسير جديد لتلك القواعد سيكون تطبيقه بأثر رجعي، وبالتالي سيتم فسخ كافة ما تم إبرامه من عقود قبل صدور هذا التفسير الجديد باعتبار أن تلك العقود أبرمت في ظل تفسير خاطئ، وهو ما سيترتب عليه توتر وعد استقرار فيما يتم بالمجتمع من تعاملات[9].

د- الشرط الرابع: ألا تتضمن القاعدة القانونية حكم باستبعاد الغلط في القانون

وآخر الشروط الخاصة بالغلط في تطبيق القانون هو ألا تكون القاعدة القانونية متضمنة لحكم يستبعد إعمال الغلط في تطبيق القانون كسبب من الأسباب التي تعيب التصرف القانوني، ويقصد بذلك أن يكون التعاقد أو التصرف الذي أجراه الشخص من التصرفات التي لا تقبل الطعن عليها استناداً إلى الغلط في القانون، وعلى سبيل المثال لذلك أن يقوم المتعاقد بإبرام عقد ما تمنع طبيعته الطعن عليه للغلط في القانون أو ينص القانون على استبعاد إمكانية الطعن عليه لذلك الغلط، فعندئذ لا يتمكن المتعاقد من التمسك بالغلط في القانون لفسخ العقد حتى لو تحقق هذا الغلط بالفعل.

خامساً: الآثار القانونية لتحقق الغلط

متى تحققت الشروط اللازم توافرها لتحقق حالة الغلط بغض النظر عن نوعه، وتمسك المتعاقد الذي أصاب الغلط إرادته بذلك، فإن ذلك يترتب عليه آثار قانونية هامة، إلا أنها تختلف في حكمها بين صور الغلط من صورة إلى أخرى، حيث خص المشرع الأردني كل منها بحكم وأثر قانوني خاص بها، وسوف نتناول الأثر القانوني لكل صورة من صور الغلط في النقاط الآتي بيانها.

1- الأثر القانوني المترتب على صور الغلط في الواقع

كما سبق وأن أوضحنا أن الغلط في الواقع يتحقق في ثلاث صور، وكل صورة من تلك الصور رتب عليها المشرع الأردني أثر قانوني خاص بها، ولذلك فقد خص كل منها بنص قانوني مستقل في القانون المدني الأردني، وسوف نوضح ذلك في الأسطر القليلة القادمة.

أ- الأثر القانوني للغلط في ماهية العقد أو شرط من شروط انعقاده أو في محله

أول صور تحقق الغلط في الواقع هو الغلط في ماهية العقد – ويشمل ذلك الغلط في ركن من أركانه – أو في أحد شروط انعقاده أو في محله، وهذه الصورة تعرض المشرع الأردني لأثرها القانوني فيما جاء بنص المادة رقم (152) من القانون المدني الأردني، حيث نص فيها على أن (إذا وقع الغلط في ماهية العقد أو في شرط من الانعقاد أو في المحل بطل العقد).

وهو ما يتبين معه أن الأثر القانوني المترتب على تحقق الغلط في صورته تلك هو بطلان العقد، أي أن العقد لا يعد منعقداً من حيث الأصل، ويرجع ذلك إلى أن الغلط في تلك الصورة ينصب على أمور تتصل مباشرة بالإيجاب والقبول اللذان ينشأ العقد بتطابقهما، ونظراً لوجود غلط بأحدهما فإن ذلك يعني بالضرورة أنه لا يتطابق مع الآخر، وبالتالي فلا يكون التقائهما منشئاً للعقد لكونهما غير متطابقين، وبالتالي فإن الغلط في هذه الصورة يترتب عليه أثر قانوني يتمثل في انعدام العقد واعتباره كأن لم ينشأ من حال المبتدأ.

ب- الأثر القانوني للغلط في أمر مرغوب

يقصد بالأمر المرغوب الصفة المعينة في محل التعاقد أو في شخص المتعاقد الآخر أو صفة تتعلق بهذا المتعاقد، والغلط في أياً من تلك الأمور تعرض المشرع لأثرها القانوني بنص المادة رقم (153) من القانون المدني الأردني بقوله أن (للعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في أمر مرغوب كصفة في المحل أو ذات المتعاقد الآخر أو صفة فيه).

وبالتالي فإن الأثر المترتب على تلك الصورة من صور الغلط في الواقع هو جواز تمسك المتعاقد الذي وقع في الغلط بالفسخ، حيث جعل المشرع لهذا المتعاقد الحرية في الخيار بين أن يفسخ العقد متمسكاً بالغلط الذي شاب إرادته وجعلها معيبة، أو أن يقرر رغبته في الاستمرار في التعاقد وعدم فسخه متى ارتضى به على حاله، والمشرع لم يجعل البطلان أثراً لتلك الصورة من الغلط لكون العقد هنا قد انعقد صحيحاً مشتملاً على أركان انعقاده وشروط صحته ومحله، إلا أن الغلط قد انصب على صفة توهمها المتعاقد في الشيء محل التعاقد أو في شخص المتعاقد الآخر، وهو أمر يرجع إقراره إلى المتعاقد الذي أصيب بهذا الغلط، لاسيما وأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يقرر ما إذا كان هذا الغلط قد ترتب عليه تفاوت جسيم يضر به أم لا.

ج- الأثر القانوني للغلط المادي في الكتابة أو الحساب

بالنسبة للغلط المادي المتمثل في خطأ كتابي أو حسابي في بيانات العقد فإن المشرع الأردني قد عالج هذه الصورة من صور الخطأ في نص المادة رقم (155) من القانون المدني، حيث نصت تلك المادة على أنه (لا يؤثر في العقد مجرد الغلط في الحساب أو الكتابة وإنما يجب تصحيحه).

ومن خلال نص هذه المادة يتضح أن المشرع الأردني لم يعتد بالغلط المادي الوارد على بيانات العقد الكتابية أو الحسابية لإحداث أي تأثير قانوني على صحة العقد ونفاذه، بل جعل حكم هذا الخطأ هو تصحيحه دون أي مساس بصحة العقد أو سريانه، بحيث لا يحق لأي من المتعاقدين في تلك الصورة من صور الغلط أن يتمسك به لطلب الفسخ.

2- الأثر القانوني المترتب على الغلط في القانون

نصت المادة رقم (154) من القانون المدني الأردني على الأثر القانوني المترتب على تحقق الغلط في القانون، حيث تضمنت أن (للعاقد فسخ العقد إذا وقع منه الغلط في القانون وتوافرت شروط الغلط في الواقع طبقاً للمادتين (151) و(153) ما لم يقض القانون بغير ذلك).

ومن مجمل هذا النص القانوني يتضح أن المشرع قد رتب على توافر الغلط في القانون أثراً قانونياً يتمثل في عدم لزوم العقد لصالح المتعاقد الذي تحقق لديه هذا الغلط، فيكون له أحقية في أن يتمسك بالفسخ نتيجة تعيب إرادته بسبب هذا الغلط، شريطة أن يتحقق فيه شرطي الغلط الجوهري والاتصال بالمتعاقد الآخر والمنصوص عليهما في المادتين (151) و(153) من القانون المدني، أي أن تتوافر فيه شرطي تحقق الغلط في الواقع.

سادساً: نماذج لأحكام القضاء الأردني ذات العلاقة

1- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 847 لسنة 2022 والصادر بجلسة 28/2/2022، والمتضمن أنه (الأصل أن العقد الذي ينعقد صحيحاً نافذاً لا يجوز لأحد العاقدين أن يرجع فيه بإرادته المنفردة ولكن هناك عقود تقبل بطبيعتها أن يرجع فيها أحد العاقدين دون توقف على إرادة العاقد الآخر كالوكالة والشركة والهبة والوديعة والعارية والرهن والكفالة وهناك عقود يكون فيها لأحد العاقدين خيار الرجوع ومنها خيار الغلط وخيار الوصف وخيار التدليس وخيار الغبن وخيار تفرق الصفقة ومنها أيضاً خيار الشرط وخيار التعيين وخيار الرؤية وخيار العيب فإذا ثبت خيار منها لأحد العاقدين استطاع بإرادته المنفردة أن يرجع في العقد).

2- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 310 لسنة 2018 والصادر بجلسة 22/1/2018، والمتضمن أنه (إذا نظمت الوكالة موضوع الدعوى نتيجة استعمال طرق احتيالية والتغرير مما أوقع المدعية بالغلط فإن ذلك يشكل عيباً من عيوب الإرادة التي تبطل العقد فتكون الوكالة وهذه الحالة باطلة ويتعين فسخها وذلك وفقاً لأحكام المادتين (145) و(152) من القانون المدني).

3- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 847 لسنة 2022 والصادر بجلسة 28/2/2022، والمتضمن أنه (لمن يدعي بوجود غلط كما هو وارد في المادة (135) من القانون المدني سواء في أمر مرغوب فيه في العقد أو لوجود صفة جوهرية في محله أو في ذات المتعاقد الآخر أو صفة فيه مع توافر الشروط الواردة في المادة (151) منه أن يطلب فسخ العقد).

سابعاً: الخاتمة

يمثل الغلط عيب من العيوب التي تتعيب بموجبها إرادة المتعاقد الذي يصاب بها، ولا نبالغ في قولنا أن الغلط بصوره المختلفة يمثل أحد أهم تلك العيوب قاطبة، لذلك فقد عني المشرع الأردني ببيان الشروط الخاصة به، كما وضع الحكم ورتب الأثر القانوني الخاص بكل صورة من صوره بالشكل الذي يتناسب مع طبيعتها وظروفها.

كتابة: أحمد عبد السلام

[1] – ياسين جبوري – المبسوط في شرح القانون المدني – ط1 – دار وائل للنشر والتوزيع – إربد – ج1 – 2002 – ص453.

[2] – أحمد أبو ستيت – نظرية الالتزام في القانون المدني المصري – مكتبة عبد الله وهبة – القاهرة – بدون عام نشر – ص109.

[3] – عبد المجيد الحكيم – الكافي في شرح القانون المدني الأردني والقانون المدني العراقي والقانون المدني اليمني في الالتزامات والحقوق الشخصية – الشركة الجديدة للطباعة – الأردن – ج1 – 1993 – ص337.

[4] – عبد الفتاح عبد الباقي – نظرية العقد والإرادة المنفردة: دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي – بدون دار نشر – القاهرة – 1984 – ص317.

[5] – توفيق فرج – النظرية العامة للالتزام – ط2 – بدون دار أو بلد نشر – 1980 – ج1 – ص 130.

[6] – عبد المنعم فرج الصده – نظرية العقد في قوانين البلاد العربية – دار النهضة العربية – بيروت – 1984 – ص234.

[7] – يراجع البند سادساً من هذا المقال – الحكم رقم (3).

[8][8] – علي نجيدة – الغلط ومعياره بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية – مجلة القانون والاقتصاد – ع (56) – مصر – 1986 – ص154.

[9] – أنور الفزيع – الغلط في القانون باعتباره عيب في الرضا – مجلة الحقوق – ع (4) – س 17 – الكويت – 1993 – ص138.