التحايل على القانون

التحايل على القانون

لا جدال على أن الهدف الأسمى من سن التشريعات والقوانين، هو أن يكون الجميع تحت طائلة القانون دون تمييز عملًا بمبدأ المساواة أمام القانون، ومع ذلك قد يعمد البعض إلى الالتفاف حول القانون باستخدام الحيل، الأمر الذي يترتب عليه استغلال القوانين بصورة غير مشروعة؛ لذا فكان لزامًا على المشرع أن يتصدى لمحاولات الغش والتحايل على القانون. وسنتناول في هذا المقال جميع ما يخص التحايل على القانون في العناصر الرئيسية الآتية:

أولا: تعريف التحايل على القانون:

ثانيًا: التحايل على القانون في نطاق القانون الدولي الخاص:

ثالثًا: التحايل على القانون في نطاق قانون المرافعات المدنية:

رابعًا: السوابق القضائية الخاصة بالتحايل على القانون:

ونقدم شرح تفصيلي لكل عنصر من العناصر الرئيسية السابقة فيما يلي:

أولا: تعريف التحايل على القانون:

يُقصد بالتحايل على القانون اصطلاحًا استعمال النصوص القانونية بسوء نية؛ للحصول على غرض غير مشروع أو الإضرار بالغير. وتتعدد صور التحايل على القانون تبعًا للغرض الذي يستهدفه مرتكب هذه الصورة، وتتنوع هذه الصور بحسب إذا ما كانت متعلقة بالقانون الدولي أو قانون أصول المحاكمات المدنية.

ثانيًا: التحايل على القانون في نطاق القانون الدولي الخاص:

بداءةً ولكي يكمن لنا التطرق إلى ماهية نظرية التحايل على القانون يجب علينا استحضار الجذور التاريخية لهذه النظرية في نطاق القانون الدولي الخاص.

“لقد لمعت فكرة التحايل على القانون كسبب لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي في منتصف القرن التاسع عشر عام 1876م، عندما عُرضت قضية (الأميرة وبهورمون) على القضاء الفرنسي. والتي تتلخص وقائعها في أن أميرة بلجيكية الأصل (الكونتسة كرمان شيماي) تزوجت بالأمير الفرنسي (دي بوفرمون)، واستقرت معه في فرنسا، واكتسبت الجنسية الفرنسية، وعلى إثر خلافات نشبت بينهما؛ أرادت الأميرة الفرنسية بلجيكية الأصل الطلاق، وبالنظر إلى أن القانون الفرنسي المختص والذي هو قانون جنسية الزوجين كان يمنع الطلاق آنذاك؛ فقد لجأت الأميرة إلى التجنس بجنسية إحدى المقاطعات الألمانية والتي يجيز قانونها الطلاق؛ مما أتاح لها بعد ذلك الطلاق من زوجها الأول الأمير (دي بوفرمون)”([1]).

 “بعد ذلك قامت الأميرة بالسفر إلى برلين وتزوجت بأمير روماني الجنسية يدعى “ببسكو” و استقرا معًا في فرنسا، وعندما علم الأمير الفرنسي -زوجها الأول- بالأمر قرر إقامة دعوى أمام المحاكم الفرنسية مطالبًا فيها بإعلان بطلان الزواج الثاني لكون الطلاق غير صحيحًا؛ لأنه تم بعد تغيير الجنسية، وبالفعل تمت إقامة الدعوى بمراحلها إلى أن أصدرت محكمة النقض الفرنسية قرارها الصادر بتاريخ 18/3/ 1878م بعدم الاعتراف بالتطليق الذي تم بالخارج و إعلان بطلان الزواج الثاني على أساس أن الطلاق لم يتم إلا بعد تغيير الزوجة لجنسيتها؛ و هو ما يشكل غشًا أو تحايلًا على القانون”([2]).

1.     تعريف نظرية التحايل على القانون في نطاق القانون الدولي الخاص:

الملاحظ خلو التشريعات من تعريف نظرية التحايل على القانون في نطاق القانون الدولي الخاص، اللهم إلا المشرع التونسي الذي تميز بصياغة اتسمت بقدر عالٍ من الوضوح والدقة، إذ قام بتحديد أحكام التحايل على القانون من حيث بيان شروطه وجزائه، فعرفته (المادة 30) من مجلة القانون الدولي الخاص التونسي بأنه “التغيير المصطنع لأحد عناصر إسناد الوضعية القانونية الواقعية، بنية تجنب تطبيق القانون التونسي أو الأجنبي الذي تعينه قاعدة التنازع المختصة، وإذا توفرت شروط التحايل على القانون، فلا عبرة لتغير عنصر الإسناد”([3]).

ولقد اجتهد الفقه في تعريف التحايل على القانون فعرفه البعض على أنه: “الغش الذي يتخذه الأشخاص الخاضعون لقواعد قانونية آمرة أو ناهية لتجنب هذه القواعد، والوصول إلى تطبيق قواعد قانونية أخرى يتوقف تطبيقها على إرادتهم، مع الانحراف عن معناها الحقيقي.

كما عرفه جانب آخر بأنه: قيام أحد أطراف العلاقة بتغيير أحد الضوابط التي يتحدد بمقتضاه القانون الواجب التطبيق بشكل متعمد، بقصد التهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق أصلًا”([4]).

ونميل من جانبنا إلى التعريف الذي أورده المشرع التونسي؛ ففي حين تناولت التعريفات السابقة شروط التحايل والهدف المقصود منه فقط، نجد أن المشرع التونسي قد أضاف في تعريفه الجزاء المترتب على تحققه ألا وهو استبعاد عنصر الإسناد الجديد والإبقاء على القديم من خلال إضافة “… فلا عبرة بتغير عنصر الإسناد”.

2. عناصر التحايل على القانون:

من خلال التعريفات السابقة يتضح لنا أن للتحايل على القانون عنصران لازمان لكي يحقق التحايل الأثر المترتب على توافره أحدهما مادي والأخر معنوي.

يُمثل الغش الركن المادي للتحايل على القانون الذي يتحقق من خلال القيام بتغيير إرادي فعلي وحقيقي في ضابط الإسناد. أما العنصر المعنوي فيتمثل في أن يكون هذا التغيير بنية التهرب من أحكام قانون ما؛ لذا فعند توافر حسن النية فلا نكون بصدد الغش المقصود، خاصةً وأن تغيير ضابط الإسناد يعد مشروعًا من حيث الأصل، كما أنه لا مجال لإعمال نظرية التحايل لآثارها إذا لم تحقق الحيلة الغرض المقصود منها ألا وهو تغير ضابط الأسناد.

3. الأثر المترتب على الدفع بالتحايل على القانون

يترتب على الدفع بالتحايل على القانون استبعاد القانون الذي يتم التحايل لصالحه، أي يتم استبعاد القانون الذي تم التحايل أو الغش بقصد تطبيقه، وتطبيق القانون الذي تحدده قاعدة الإسناد فيما لو لم يتم التحايل عليها ابتداء.

ولكن يُثار التساؤل بشأن ما إذا كان أثر تطبيق النظرية يتناول النتيجة المبتغاة من التحايل على القانون -المتمثلة في قصد التهرب من أحكام قاعدة الإسناد الوطنية فقط- أو أنه يتناول السبب إلى جانب النتيجة، أي يتدخل في الوسيلة التي تم من خلالها تغيير ضابط الإسناد، ويقوم بإبطال الجنسية التي اكتسبها المتحايل قاصدًا التحايل على ضابط الإسناد.

قبل عرض آراء الفقهاء فيما يتعلق بأثر التحايل على القانون، نوضح بأن: “البطلان لا يمكن أن يكون أثر التحايل؛ إذ لا يمكن لأي دولة أن تقرر صحة التصرف من عدمه في الدولة التي تم إجراؤه فيها، وكل ما تملكه في هذا الصدد أن تعتبر هذا التصرف غير نافذ على إقليمها”([5]).

ومن الملاحظ اختلاف آراء الفقهاء في هذا الشأن إلى فريقين:

الاتجاه الأول:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن أثر الدفع بالتحايل أو الغش نحو القانون يجب أن يقتصر على النتيجة فقط أي (تطبيق القانون الأجنبي) فقط دون الوسيلة المستعملة للوصول إلى تلك النتيجة وهي الأفعال التي أدت إلى تغيير ضابط الإسناد، فالوسيلة في الأصل مشروعة طالما أنها قد تمت بطريقة سليمة تمامًا ولم تنطوي على أي مخالفة للقانون، وبما أن دولة أخرى قررتها فيعترف فيها دون ترتيب نتيجة نقل الاختصاص إلى قانون آخر، وهذا هو الاتجاه الغالب فقهًا وقضاءً في فرنسا، فقد اقتصر حكمها في قضية (الأميرة بوفرمون) على عدم نفاذ الطلاق فقط -وهو النتيجة التي كانت الأميرة تسعى إليها- دون الحكم ببطلان جنسيتها الألمانية”([6]).

الاتجاه الثاني:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن أثر التحايل على القانون يجب ألا يقتصر على عدم نفاذ النتيجة التي قصد المتحايل الوصول إليها، وإنما يمتد ليشمل الوسيلة التي استخدمها المتحايل؛ للوصول إلى هذه النتيجة غير المشروعة. “ولذلك في قضية “دي بوفرمون” على سبيل المثال يجب ألا يقتصر أثر التحايل على عدم نفاذ الطلاق والزواج الثاني الذي أبرمته تبعًا لجنسيتها الجديدة، وإنما يجب أيضًا إبطال الوسيلة التي استعملتها ألا وهي تجنسها بالجنسية الألمانية؛ فتظل بذلك فرنسية الجنسية ليس فقط بالنسبة لتنازع القوانين، وإنما أيضا بالنسبة لجميع المجالات الأخرى، فلا يعترف القانون وفقًا لهذا الرأي بالجنسية الجديدة”([7]).

ونرى أن الأثر السلبي للدفع بالتحايل على القانون يجب أن يقتصر على استبعاد تطبيق القانون الأجنبي الذي قصد المتحايل اللجوء إلى تطبيق أحكامه كأثر مترتب على غشه، دون أن يمتد ليشمل الوسيلة الذي اتخذها المتحايل، فهذه الوسيلة مشروعة في حد ذاتها ابتداءً، ومن ثَمَّ فإنه وفي الحالات المتصورة قانونًا وفي تغيير الجنسية كمثال لا يملك القاضي أيّ سلطة في اعتبار الجنسية التي يتمتع بها المتحايل على القانون باطلةً أو غير قانونية، إذ إن السلطة في ترتيب هذا المركز القانوني إنما تعود لقانون آخر غير قانون القاضي، وهو الذي يقرر الأوضاع التي يتم بموجبها منح الجنسية أو المراكز القانونية، وهو أيضًا الذي يحدد كيفية بطلانها أو سحبها، وليس قاضي الموضوع المختص بنظر النزاع.

ويتم استبعاد القانون الذي تم التحايل لصالحه كأثر سلبي للدفع بالتحايل على القانون، فيحدث في هذه الحالة فراغ قانوني مؤقت، فيأتي دور الأثر الإيجابي بتطبيق القانون الأصلي الذي تم التحايل ضده.

4. موقف المشرع الأردني من تغيير ضابط الإسناد لغاية غير مشروعة:

يكشف لنا استعراض قواعد القانون الدولي الخاص الأردني لا سيما قواعد الإسناد خلو التشريع الأردني من أية إشارة إلى الغش أو التحايل على القانون باعتباره مانع من موانع تطبيق القانون الواجب التطبيق، وذلك بخلاف بعض التشريعات الأخرى كالقانون الدولي التونسي، والقانون الدولي الخاص اليوغسلافي، والتشريع السويسري لسنة 1987م، والقانون المدني البرتغالي لسنة 1966م.

ومع ذلك ورغم عدم وجود أحكام قضائية أردنية بحسب جهدنا المبذول في سبيل البحث عنها، فإننا نري ضرورة إعمال الدفع بالتحايل على القانون باعتباره مانع من موانع تطبيق القانون الواجب التطبيق وفقًا لنص (المادة 25) من القانون المدني الأردني التي تنص صراحةً على أن “تنبع مبادئ القانون الدولي الخاص فيما لم يرد في شأنه نص في المواد السابقة من أحوال تنازع القوانين”([8])، وذلك على أساس أن الدفع بالتحايل على القانون يعتبر واحد من أكثر مبادئ القانون الدولي الخص شيوعًا، غير أن الواقع يبين لنا عدم إمكانية الدفع بالتحايل على القانون في ظل قواعد الإسناد الأردنية التالية:

 نصت (المادة 13) من القانون المدني الأردني على أنه: “أ. يرجع في الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين. ب. أما من حيث الشكل فيعتبر الزواج ما بين أجنبيين أو ما بين أجنبي وأردني صحيحًا إذا عُقد وفقًا لأوضاع البلد الذي تم فيه، أو إذا روعيت فيه الأوضاع التي قررها قانون كل من الزوجين”([9]).

نص (المادة 14) من القانون المدني الأردني على أن: “أ. يسري قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج على الآثار التي يرتبها عقد الزواج، بما في ذلك من أثر بالنسبة إلى المال. ب. أما الطلاق فيسري عليه قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت الطلاق. ويسري على التطليق والانفصال قانون الدولة التي ينتمي اليها الزوج وقت رفع الدعوى”([10]).

وكذلك نص (المادة 15) من القانون المدني الأردني: “في الأحوال المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا كان أحد الزوجين أردني وقت انعقاد الزواج، يسري القانون الأردني وحده فيما عدا شرط الأهلية للزواج”([11]).

ويُستفاد من نصوص المواد سالفة الذكر أن القانون الأردني فقط هو القانون الواجب التطبيق في حالة ارتباط النزاع بالشروط الموضوعية للزوج (عدا شرط الأهلية)، أو آثار الزواج، أو الطلاق والتطليق والانفصال طالما أن أحد الزوجين كان أردنيًا وقت انعقاد هذا الزواج، وبالتالي فإن تغيير جنسية الزوج الأردني بعد انعقاد هذا الزواج لا يؤثر في القانون الواجب التطبيق؛ لذا فلا مجال للبحث في الأثر المترتب على تغيير ضابط الإسناد لغاية غير مشروعة في تطبيق القانون.

كما نصت (المادة 18) من القانون ذاته على أن: “أ. يسري على الميراث والوصية وسائر التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت قانون المورث والموصي أو من صدر منه التصرف وقت موته. ب. ويسري على شكل الوصية قانون الموصي وقت الإيصاء أو قانون البلد الذي تمت فيه وكذلك الحكم في سائر التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت”([12]).

ويتضح من نص (المادة 18) أن القانون الواجب التطبيق في حالة اعتبار الجنسية ضابط إسناد هو قانون جنسية المورث أو الموصي أو من صدر من التصرف لحظة وفاته. أما بالنسبة للوصية من حيث الشكل فإن القانون الواجب التطبيق هو قانون جنسية الموصي وقت الإيصاء.

وأخيرًا نص (المادة 19) من القانون المذكور: “يسري على الحيازة والملكية والحقوق العينية الأخرى قانون الموقع فيما يختص بالعقار ويسري بالنسبة إلى المنقول قانون الجهة التي يوجد فيها هذا المنقول وقت تحقق السبب الذي ترتب عليه كسب الحيازة، أو الملكية، أو الحقوق العينية الأخرى، أو فقدها”([13]).

ويتضح من نص المادة سالفة الذكر أن القانون الواجب التطبيق على الحقوق العينية المرتبطة بمنقول سواء وجودًا أو عدمًا يتمثل في قانون موقع هذا المنقول لحظة تحقق السبب الذي ترتب عليه وجود هذا الحق أو انعدامه.

ومن جميع ما سبق؛ يتبين جليًا أن قواعد الإسناد الأردنية السابقة لا تقيم أي وزن على الإطلاق لتغيير ضابط الإسناد حيث يبقي القانون الواجب التطبيق ثابتًا لا يتغير على الرغم من تغير ضابط الإسناد.

ثالثًا: التحايل على القانون في نطاق قانون المرافعات المدنية:

من خلال الواقع العملي في المحاكم، ورغم حرص المشرع على ملاحقة هذا التحايل للحد منه بفرض الغرامات وتوقيع الجزاءات. غير أن الواقع العملي لم يخل من بعض التحايلات على القانون بما يطيل أمد النزاع أو يؤدي إلى إجهاد الخصوم. ونتناول بعض صور التحايل على القانون في نطاق قانون المرافعات المدنية على النحو التالي:

1.     الدعاوى الكيدية:

“قد تبدأ إجراءات التقاضي الكيدية برفع دعوى كيدية سواء تم ذلك بمعرفة الخصم المماطل أو بتسخير شخص وهمي وسواء استمر السير فيها أو لم يستمر”([14]). ونتناول فيما يلي أمثلة للدعاوى الكيدية في شتى المواد المدنية.

أ‌.       رفع الدعوى ممن ليست له مصلحة:

الأصل أنه “لا دعوى حيث لا مصلحة”، وأن المصلحة هي مناط الدعوى وهذه المصلحة لا بد أن تكون شخصيةً مباشرةً وقائمةً يقرها القانون، فإذا لم تتوافر المصلحة بهذه الشروط في الدعوى اُعتبرت غير مقبولة.

لكن ما يحدث في العمل القضائي أن القاضي عند رفع الدعوى إليه لا يبدأ في بحثها اللهم إلا إذا اكتمل الشكل القانوني لها كالتبليغ وإعادة التبليغ. ومن ثم، فإن مراجعة القاضي لتوافر شروط الصحة والتحقق من صفة رافع الدعوى لا يتم البت فيه على الفور، بل يستغرق بعض الوقت. وبالتالي تكون الدعوى الكيدية التي أُقيمت من غير ذي مصلحة قد قطعت شوطًا ترتب عليه إرهاق الخصم.

وقد أجاز المشرع المصري توقيع الغرامة على من يتبين أنه قد أساء استعمال حقه في التقاضي، وذلك وفقًا لنص (المادة 3) من قانون المرافعات رقم (13) لسنة 1968م المعدل بالقانون رقم (81) لسنة 1996م: “للمحكمة عند الحكم بعدم قبول الدعوى لانتفاء شرط المصلحة أن تحكم على المدعي بغرامة إجرائية لا تزيد عن خمسمائة جنيه إذا تبينت أنه قد أساء استعمال حقه في التقاضي”([15]).

ب‌.   رفع الدعوى ممن لسيت له صفة:

يشترط لقبول الدعوى أن يكون للمدعي صفة في رفعها، والمقصود بصاحب الصفة هنا -وفقًا لنص (المادة 3) من قانون المرافعات رقم (13) لسنة 1968م المعدل بالقانون رقم 81 لسنة 1996- صاحب الحق محل النزاع أو نائب، وشرط الصفة شرط جوهري، ويُعد من النظام العام بحيث إنه إذا لم يتوافر وجب على المحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها وفي أية حالة كانت عليها الدعوى بعدم القبول.

ويمكن أن نضرب مثالًا للدعوى الكيدية في مثل هذه الحالة، والذي يتمثل في رفع دائن دعوى على مدينه، فيقوم هذا المدين بتسخير شخص بناءً على دين وهمي بمقتضى كمبيالة أو سند لأمر ثم تُرفع الدعوى بهذا الدين الصوري؛ وذلك قصد الإضرار بالدائن والذي قد يصعب عليه إثبات صورية أو كيدية الدعوى المرفوعة من الشخص المسخر من جانب المدين.

2.     التلاعب في التبليغات الرسمية:

قد يتخذ التلاعب مظاهر كيدية كالتباطؤ في إجراءات التبليغ وإعادة التبليغ وغير ذلك مما يوجد في الواقع القضائي، حيث يظهر التلاعب في اتباع أسلوب الإطالة لأمد التقاضي وعرقلة الفصل في الدعوى وترك النزاع معلقًا لأطول فترة ممكنة بهدف إتعاب الخصم النزيه الذي يبتغي الوصول إلى حقه.

“يعتبر التكليف بالحضور كصورة من صورة التبليغ الرسمي من أولى الإجراءات التي تنعقد الخصومة القضائية بها. فلا تنعقد الخصومة إلا بتكليف المدعي عليه بالحضور، أو بحضور الأخير اختياريًا أمام القضاء؛ لذلك وجب علي المدعي بعد تسجيل العريضة التوجه إلى محضر قضائي مختص إقليميًا لتكليف المدعي عليه بالحضور في الجلسة المحددة وتسليمه نسخة من العريضة المودعة”([16]).

ومن أمثلة التلاعب في التبليغات الرسمية التبليغ في محل إقامة وهمي بالاتفاق مع المحضر القضائي، أو تعمد التبليغ في مكان مغلق مع العلم بذلك، أو قيام المحضر بتبليغ شخص آخر غير الشخص المقصود مبررًا ذلك بعدم وضوح العنوان وما إلى ذلك، أو تسليم صورة التبليغ إلى شخص من طرف صاحب الورقة المبلغة على أساس كونه من القاطنين مع المبلغ إليه، أو إثبات امتناع الشخص المراد إعلانه على غير الحقيقة بالتواطؤ مع المحضر، أو امتناع المحضر عن التبليغ بالتواطؤ مع الخصم في حالة لا تستوجب الامتناع وذلك بهدف تفويت ميعاد معين أو فرصة معينة على طالب التبليغ، أو اكتفاء المحضر بتسجيل تخاطبه مع شخص رفض ذكر اسمه ورفض الاستلام، أو تعمد تأخير الخطابات المسجلة التي يرسلها المحضر إلى الشخص المراد تبليغه لإخطاره بأنه قد قام بتسليم الصورة إلى قسم الشرطة مثلًا.

ومن المسلم به أن المحضر بالاتفاق مع أحد المحامين يستطيع أن يثقل عملية التبليغ متعللًا بأنه لم يستدل على الشخص المراد تبليغه، وبالتالي تظل الدعاوى والقضايا متداولة لفترة طويلة.

فالأصل أن أي نزاع قضائي يُفترض فيه وجود خصمين أحدهما يريد إتمام الإجراء القانوني السليم والآخر لا يريد ذلك، والملاحظ صعوبة إثبات خطأ المحضر فلا توجد ضوابط محددة بالنسبة إليه خاصةً فيما يتعلق بالتبليغات القضائية.

3.     إساءة استعمال حق التقاضي في مرحلة الخصومة:

تتعدد صور التحايل على القانون في مرحلة الخصومة ونذكر من هذه الصور ما يلي:

أ‌.       تعمد تجزئة المستندات لإطالة أمد التقاضي:

يجب على المدعي إيداع مستندات الدعوى عند رفع الدعوى، فإذا لم يقم بذلك وجب عليه تقديم كل ما بحوزته من مستندات في أول جلسة. من ذلك ما نص عليه المشرع الأردني في (المادة 57) من قانون أصول المحاكمات المدنية: “على المدعي أن يقدم إلى قلم المحكمة لائحة دعواه من أصل وصور بعدد المدعي عليهم ومرفقًا بها ما يلي: أ. حافظة المستندات المؤيدة لدعواه مع قائمة بمفردات هذه الحافظة…”([17]).

لكن الواقع العملي يبين أن المدعي يتعمد تقديم المستندات مجزأة على مراحل فيقوم بتقديم بعضها في الجلسة الأولى أو الثانية ويطلب أجلًا لتقديم كل المستندات وذلك بهدف إطالة مرحلة التقاضي خاصةً إذا كانت الدعوى كيدية.

وقد رتب المشرع الأردني جزاء على تخلف أحد الخصوم عن إيداع المستندات فنصت (المادة 72) من قانون أصول المحاكمات المدنية والقانون على أن: “تحكم المحكمة على من يتخلف من موظفيها أو من الخصوم عن إيداع المستندات أو عن القيام بأي إجراء من إجراءات المرافعات في الميعاد الذي حددته المحكمة بغرامة لا تزيد عن عشرين دينارًا ويكون ذلك بقرار يثبت في محضر الجلسة له ما للأحكام من قوة تنفيذية ولا يقبل الطعن فيه بأي طريق، ولكن للمحكمة أن تقيل المحكوم عليه من الغرامة كلها إذا أبدى عذرًا مقبولًا”([18]).

الطعن بالتزوير الكيدي على المستندات:

قد يطعن المدعي عليه بالتزوير على كل أو بعض المستندات المقدمة من المدعي، حيث يتيح له القانون حق الاطلاع على هذه المستندات وله بعد ذلك الطعن على مستند أو أكثر بالتزوير وهذا يعتير حقًا له أيضًا، وليس للمحكمة مصادرته عليه، كما تمنحه أجلًا لاتخاذ إجراءات الطعن بالتزوير، ثم بعد ذلك وفي جلسات تالية يتم التحقيق في هذا التزوير الذي قد يستمر لفترة طويلة، وتأتي النتيجة في النهاية بسلامة المستند المطعون عليه، ولا يتحمل المدعي عليه الذي ماطل وأرهق خصمه طوال هذه المدة جزاءً رادعًا.

ب‌.   التدخل الكيدي في الدعوى:

يحدث هذا النوع من التدخل في دعاوى الإرث والنزاع على التركات بصفة خاصة، ومثال ذلك أن يتوفى شخص ويترك إرثًا وأثناء قيام الورثة بعمل الإعلام الشرع إذ بهم يفاجئون بتدخل أجنبي عنهم -سواء كان التدخل بهدف تحقيق مصلحة غير مشروعة لنفسه أو مجرد الكيد- ويطلب حقًا في الإرث؛ لمجرد تعطيل مصلحة الورثة، أو ينضم إلى أحد أطراف ضد الطرف الآخر؛ لتحقيق مصلحة شخصية أولًا ومساعدة الطرف المنضم إليه في كسب حقوق إضافية غير مشروعة له.

ت‌.   تعسف المدعي في إبداء الدفع:

إذا كان حق المدعي عليه في إبداء الدفع مقررًا بهدف تكافؤ الفرص واحترامًا لحقوق الدفاع، إلا أن استخدامه يُقيَّد بعدم إساءة استخدام حقه في إبداء الدفع. ومثال لذلك، إثارة الطلبات العارضة كطلب تحقيق، أو طلب انتداب خبير وطلبات التأجيل المتكررة بأعذار وحجج واهية.

قد يأخذ تعسف الخصوم وإساءة استعمال حق الدفاع شكل طلب رد القاضي الذي ينظر الدعوى بناءً على سبب يبديه مقدم الطلب، من الأسباب التي نصت عليها (المادة 134) من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني، كالادعاء بوجود عداوة، أو الادعاء بوجود علاقة صداقة حميمية، وفي هذه الحالة يتم وقف سير الدعوى إلى حين الحكم في طلب الرد المقدم من طالبه والذي لم يقصد منه سوى عرقلة سير الدعوى لأطول فترة ممكنة.

رابعًا: السوابق القضائية الخاصة بالتحايل على القانون:

ما ورد في الحكم رقم (958) لسنة 2018الصادر من محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 2/ 4/ 2018بما نصه: “يتبين لمحكمتنا أن محكمة الاستئناف بصفتها محكمة موضوع قد حجبت نفسها عن أدلة رئيسية قدمت بالدعوى … وموضوعها مطالبة بحقوق عمالية وحلف فيها اليمين المتممة وكذلك ملف الدعويين التي أقامتهما المدعى عليها (المميز ضدها) وهي اليمين الكاذبة والتزوير سالفة الإشارة ولم تبين رأيها فيما إذا كان إسناد تهمة اليمين الكاذبة وكذلك إسناد تهمة التزوير من قبل المدعى عليها قد تم بصورة كيدية ولا أساس لها خاصة وأن المدعي قد أعلن براءته من هاتين التهمتين وأن المميز ضدها (المدعى عليها) تكون قد استعملت رخصة الشكوى استعمالًا غير مشروع توجب عليها الضمان أم لا. ولم تبين رأيها فيما ورد بهذه البينة بصورة واضحة فتكون قد أغفلت وزن بينة رئيسية مقدمة في الدعوى مخالفة بذلك أحكام القانون الذي يوجب على محكمة الاستئناف استعراض كافة وقائع الدعوى وتمحيص كافة البينات المقدمة فيها وإبداء رأيها بعد وزن البينة؛ وعليه وتأسيسًا على ما تقدم نقرر نقض القرار المطعون فيه وإعادة الأوراق إلى مصدرها لإجراء المقتضى القانوني”([19]).

وما ورد في الحكم رقم (3786) لسنة 2012الصادر من محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 12/ 2/ 2013بما نصه: أخطأت محكمة استئناف عمان في عدم التفاتها عن تاريخ عرض الشيك على البنك المسحوب عليه وهو 6/3/2008م والدعوى رقم 569/2009م لدى مدعي عام جنوب عمان المقدمة بعد عام من عرض الشيك على البنك؛ مما يجعلها من الدعاوي الكيدية؛ لهذا وبالاستناد لما تقدم ودون حاجة لبحث ما ورد بباقي أسباب التمييز نقرر نقض القرار المميز وإعادة القضية إلى مصدرها لإجراء المقتضى القانوني. ([20]).

إعداد: محمد محمود

مراجعة وتدقيق: المحامي سامي العوض

[1] خلدون سعيد قطيشات: “تغيير ضابط الإسناد لغاية غير مشروعة وأثره في تحديد القانون الواجب التطبيق في أطار القانون الدولي الخاص الأردني”، راسات – علوم الشريعة والقانون، الجامعة الأردنية، المجلد 38، العد 1، 2011، ص209

[2] المرجع نفسه.

[3] (المادة 30) مجلة القانون الدولي الخاص التونسي.

[4] محمد خالد حسن عوده: “التحايل على القانون في القانون الدولي الخاص الفلسطيني: دراسة تحليلية”، مجلة جيل الأبحاث القانونية المعمقة، العدد 45، 2020، ص84.

[5] ماجد حلواني: القانون الدولي الخاص وأحكامه في القانون الكويتي”، مطبوعات جامعة الكويت، 2011، ص116.

[6] محمد خالد حسن عوده: “التحايل على القانون في القانون الدولي الخاص الفلسطيني: دراسة تحليلية”، مرجع سابق، ص93.

[7] محمد خالد حسن عوده: “التحايل على القانون في القانون الدولي الخاص الفلسطيني: دراسة تحليلية”، مرجع سابق، ص93-94.

[8] (المادة 25) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[9] (المادة 13) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[10] (المادة 14) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[11] (المادة 15) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[12] (المادة 18) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[13] (المادة 19) القانون المدني الأردني رقم (43) لعام 1976.

[14] ياسين شامي: “الدعوى الكيدية كوسيلة لإساء استعمال حق التقاضي في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري”، مجلة كلية القانون للعلوم القانونية والسياسية، جامعة كركوك – كلية القانون والعلوم السياسية، المجلد 9، العدد 32، 2020، ص201.

[15] (المادة 3) قانون رقم 81 لسنة 1996 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968.

[16] ياسين شامي: “الدعوى الكيدية كوسيلة لإساء استعمال حق التقاضي في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري”، المرجع نفسه، ص204.

[17] المادة 57 من قانون أصول المحاكمات المدنية والقانون المعدل رقم (16) لسنة 2006

[18] (المادة 72) من قانون من قانون أصول المحاكمات المدنية والقانون المعدل رقم (16) لسنة 2006

[19] الحكم رقم (958) لسنة 2018م الصادر من محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 2/ 4/ 2018م.

[20] الحكم رقم (3786) لسنة 2012م الصادر من محكمة التمييز الأردنية بتاريخ 12/ 2/ 2013م.

error: Alert: Content is protected !!