العقوبات الدولية
برزت مؤخرًا عدد من التوجهات الفكرية التي تنتقد تحركات مجلس الأمن – أحد أجهزة الأمم المتحدة – في سياق ازدواجية معايير توقيع العقوبات الدولية، وتلك التوجهات تنطلق من وقائع فعلية نتلمس فيها وجود شبهات انحراف شرعية سواء في توقيع العقوبات العسكرية أو غير العسكرية، تلك العقوبات التي كرست لمفاهيم الغلبة للدول الكبرى والأعضاء الدائمين بالأمم المتحدة.
والعقوبات التي نتحدث عنها لانتهاكات القانون الدولي لم تكن حقوقًا وليدة الصدفة، بل كانت نتاج تطورات علوم اجتماعية وقانونية لحضارات قديمة كانت تدعم تلك العقوبات، وتلك الحقب التاريخية يمكن أن تصف لنا كيف تم تنفيذ عمليات الحصار والإغلاق لإجبار الخصوم على الإذعان وأكثر من ذلك لشل أنشطتهم العسكرية والاقتصادية لتجويع العدو أو القضاء عليه، وهو ما سنقوم بإيضاحه من خلال عناصر المقال كالتالي:
أولاً: أهمية العقوبات الدولية ومجال تطبيقها:
ثانياً: مراحل تطور العقوبات الدولية:
ثالثاً: مفهوم العقوبات الدولية:
رابعاً: أنواع العقوبات الدولية:
خامساً: سلطة مجلس الأمن في القيام بعمل عسكري:
سادساً: الانتقائية في فرض التدابير غير العسكرية:
سابعاً: الازدواجية في اتخاذ الإجراءات العسكرية (أزمة الخليج الثانية 1990):
أولاً: أهمية العقوبات الدولية ومجال تطبيقها:
تبرز أهمية الحديث عن العقوبات الدولية في تقييم قدرة النظام الدولي على فرض احترام قواعد القانون الدولي، خاصة وأن فكرة العقوبات الدولية تطورت من فرض عقوبات على الكيانات لتصبح لاحقًا قابلة للتطبيق على الأفراد أيضًا.
فميثاق الأمم المتحدة يمنح مجلس الأمن صلاحيات وسلطات كاملة لتمكينه من تنفيذ وتحقيق مهامه الأساسية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين بما في ذلك اتخاذ التدابير اللازمة عند الضرورة إذا قرر المجلس أن هناك تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
فإذا ما تبين لمجلس الأمن أن هناك انتهاكاً لقواعد القانون الدولي تنال من استقرار السلم والأمن الدوليين فإنه يتدخل بفرض العقوبات التي من شأنها أن تعيد السلم والأمن الدوليين لنصابهما الصحيح.
ثانياً: مراحل تطور العقوبات الدولية:
لقد بلغ المجتمع الدولي درجة عالية من التطور والتنظيم بحيث استطاع أن يفرض عقوبات نتيجة انتهاك أحد الأسس التي يقوم عليها على الدول في مراحله الأولى ثم على الأفراد في مرحلة ثانية.
ومع تطور الوضع القانوني للقانون الدولي نتيجة التطور الكمي الذي حدث في نظام العقوبات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة والذي أدى إلى التغلب على سياسات القوة التي كانت هي الأساس في التعامل بين الدول، الأمر الذي أدى إلى منع إمكانية اندلاع الحروب وهو ما يؤدي إلى المحافظة على استقرار المجتمع الدولي.
وجديراً بالذكر أن تطور نظام العقوبات على المستوى الدولي لم يكن بالأمر الهين، خصوصاً وأن فرض العقوبات على الدول يتصادم مع سيادتها، ولكن نتيجة للتطورات التي طرأت على المجتمع الدولي وحرص الدول على سيادة الاستقرار فإن تلك العوامل ساهمت في نجاح فرض العقوبات على الدول التي تنتهك قواعد القانون الدولي.
وتُعد العقوبات الاقتصادية أحد أهم الوسائل التي من خلالها يتم إرغام الدول المخالفة للقواعد القانونية على العدول عن موقفها والسير على النهج القويم الذي يتلاءم ومصالح المجتمع الدولي، وجديراً بالذكر أن تلك العقوبات تحولت من مجرد كونها عقوبات عرفية إلى عقوبات مقننة وذلك تعاصر مع ظهور المنظمات الدولية بداية من عصبة الأمم مروراً بالأمم المتحدة.
ولكن بعد تطبيق عقوبات اقتصادية واسعة النطاق أثرت بشكل واسع جدًا على بعض الدول مما جعل بعض الاتجاهات تصف تلك العقوبات بجرائم الإبادة الجماعية المخطط لها كما حدث في العراق وليبيا ودول أخرى مما أدى إلى ضرورة البحث عن بدائل للعقوبات الاقتصادية نظراً لأنها تلحق أضرارًا جسيمة بالدول، كون أن المتضرر الأول من العقوبات الاقتصادية هو الشعوب وهو ما عزز ذلك الاتجاه الفكري.
ولقد بزغ نجم هذا الاتجاه بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأكيده على قدسية وحرمة حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية، ومن المسلم به أن فرض عقوبات اقتصادية على الدول – وعلى وجه الخصوص إذا كانت نامية – سيؤدي إلى تدهور حال شعبها وإلحاق أضراراً جسيمة بهم.
ثالثاً: مفهوم العقوبات الدولية:
مصطلح العقوبات في ضوء القانون الدولي يعني عمومًا “الإجراءات القمعية التي تتخذها دولة، أو مجموعة دول ،أو منظمة دولية لإقناع ،أو إلزام دولة أخرى بوقف انتهاكات قواعد القانون الدولي”، ويكون لمجلس الأمن سلطة فرض عقوبات دولية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين كما حددها الميثاق في الفصل السابع منه حيث تضمنت (المادة 41) من الميثاق تحديد مجموعة من الإجراءات غير العسكرية وتنص (المادة 42) على عقوبات ذات إطار عسكري.[1]
رابعاً: أنواع العقوبات الدولية:
1- العقوبات غير العسكرية:
وهي عقوبات تشمل الإجراءات غير العسكرية متمثلة في عقوبات سياسية واقتصادية، ولقد أشار ميثاق الأمم المتحدة إلى حالة واحدة من العقوبات السياسية وهي “قطع العلاقات الدبلوماسية” مع الدولة التي ترتكب الانتهاكات المنصوص عليها في (المادة 39) من الميثاق كما، أذن ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن بقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية في (المادة 41)، ويؤكد ميثاق الأمم المتحدة على منح مجلس الأمن الصلاحيات الكاملة حتى يتمكن من تنفيذ مهمته الرئيسية المتمثلة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين بما في ذلك اتخاذ أي إجراء ضروري في حال قرر المجلس أن هناك تهديدًا للسلم والأمن الدوليين لتفعيل التدابير المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق كما، يتمتع بسلطات كاملة وله حرية التصرف واتخاذ ما يشاء من تدابير ضرورية حسب الظروف، وفيما يلي إيضاح للعقوبات غير العسكرية على النحو الآتي:
أ- العقوبات الدبلوماسية:
عندما تجد دولة أن دولة أخرى قد تسببت لها في أضرار متعمدة بأن تجاوزت حدودها القانونية أو تعدت على حقوقها فإنها تلجأ إلى خيار قطع العلاقات الدبلوماسية كوسيلة للضغط على الطرف الآخر.
وقد يتم قطع العلاقات الدبلوماسية مع إحدى الدول بقرار من مجلس الأمن إذا كيف فعلها على أنه انتهاك للسلم والأمن الدوليين، وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الأمن لم يفرض عقوبات من قبل تشمل قطع العلاقات الدبلوماسية، ولكن في بعض الحالات فقط خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي وفرض قيود على تحركات المبعوثين الدبلوماسيين.
مثل هذه النوعية من الإجراءات فُرضت على ليبيا بعد تداول قضية “لوكربي” أمام المنصات الدولية فبموجب قرار مجلس الأمن رقم 748 لسنة 1992 فرضت على ليبيا عقوبات دبلوماسية تتمثل في تقليص عدد ومستوى البعثات الدبلوماسية والقنصلية، وقرر مجلس الأمن بالقرار رقم 1045/1996 بخفض مستوى وعدد ممثلي الدول في السودان بسبب عدم تسليم المتهمين بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق “حسني مبارك” في أديس أبابا.
ب- العقوبات الاقتصادية:
من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن فرض العقوبات الاقتصادية على أحد الدولة المخالفة لأحكام القانون الدولي لا تقتصر عل مجرد مقاطعة تلك الدولة ومنعها من التصدير والاستيراد، بل يذهب الأمر في بعض الأحيان إلى أبعد من ذلك، حيث قد تتجسد تلك العقوبات في صورة حظر التعامل مع الدولة المخالفة أو حصار لها أو مقاطعتها أو تجميد أصولها وودائعها في البنوك.
وتجدر الإشارة إلى أن العقوبات الاقتصادية التي توقع لمعاقبة دولة معينة في إطار ميثاق الأمم المتحدة تتمتع بضمان لتحقيق أهدافها، وفي السياق ذاته يطالب مجلس الأمن أن تتعاون الدول الأعضاء في المنظمة بالالتزام بتنفيذ الإجراءات المتخذة ضد تلك الدولة على عكس العقوبات المفروضة من قبل دولة واحدة، وساعد ذلك المناخ بعض الدول الكبرى داخل مجلس الأمن وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية استخدام تلك العقوبات للإيقاع بخصومها، فمنذ عام 1990 استخدمت الأمم المتحدة العقوبات التي يقرها مجلس الأمن كأداة لإضفاء الشرعية الدولية على قراراتها الفردية لتبرير تدخلها في شؤون البلدان النامية.
وفيما يلي حصر بالعقوبات المتعارف كآليات لردع الدول المخالفة لاتفاقيات الأمم المتحدة أو المرتكبة لجرائم ضد السلم والأمن الدوليين، وهي كالآتي:
– الحظر: المقصود بالحظر هو أن يحظر التعامل كليًا أو جزئيًا مع دولة معينة أو عدد من الدول المستهدفة بشكل عام من قبل جهة أو أكثر بعد إقرار مجلس الأمن لتلك العقوبة، وقد تم تنفيذ ذلك النوع من العقوبات ضد العراق عام 1990 حيث تم تضمنت حظر بيع الأسلحة والمعدات العسكرية من قبل الجماعة الأوروبية ووقف جميع أشكال التعاون التقني والعملي.[2]
– الحصار الاقتصادي: ويتخذ عدة أشكال:
– الحصار البحري: يستهدف منع السفن من الدخول والخروج من شواطئ الدولة المحاصرة بقصد منعها من الاتصال بالدول الأخرى بحراً، وذلك مثل الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على كوبا عام 1961 بعد تولي كاسترو السلطة بهدف تغيير نظامها السياسي.
– الحصار الجوي: هو منع أي طائرة من التحليق والهبوط فوق أراضي الدولة المعنية بهذه العقوبة، ومن الأمثلة على ما يمكن إدراجه في هذا السياق الحظر الجوي المفروض على ليبيا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 748 لعام 1992 بسبب قضية لوكربي.
– المقاطعة: هي وقف العلاقات التبادلية مع فرد أو جماعة أو دولة بغية تحقيق غرض اقتصادي أو سياسي أو عسكري في السلم أو الحرب، وقد تشمل المقاطعة حظر الاستيراد والتصدير حيث قد يكون حظرًا كليًا أو شاملًا أو جزئيًا لدولة معينة.
وتعتبر المقاطعة من أخطر الأسلحة الاقتصادية الموجهة ضد الدول المستهدفة لما لها من آثار واضحة على اقتصادها خاصة إذا تم تنفيذها من خلال منظمة دولية، وقد يتم فرضها خارج الإطار التنظيمي الدولي حيث تتشارك في المقاطعة عدد من الدول بشكل فردي.
وعلى صعيد الممارسات الدولية استخدمت جامعة الدول العربية المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني وكان هذا الإجراء من أقوى القرارات التي اتخذتها جامعة الدول العربية وفي ذلك الوقت تأسس مكتب مقاطعة هذا الكيان عام 1951 في سوريا لإبلاغ الدول العربية بالدول والشركات التي تتعامل مع الكيان الصهيوني وإدراجها على القوائم السوداء لتوقف الدول العربية كافة بعد أي تعامل معها.
– تجميد الأصول والودائع في البنوك الأجنبية: والمقصود به هو تجميد أصول الدولة في أقاليم الدول التي قررت فرض العقوبات على تلك الدولة، ومن الأمثلة التي يمكن إدراجها في هذا الصدد قرارات المجموعة الأوروبية بتجميد الأموال العراقية في أراضي الدول الأعضاء في 4 آب / أغسطس 1990.
والعقوبات الاقتصادية بشكل عام تمثل سلاحا حادا في وجه الدول والشعوب لما لها من عواقب وخيمة خاصة إذا كانت الدولة المستهدفة دولة نامية الأمر، الذي دفع ممثل البرازيل لتقديم اقتراح في مؤتمر عام 1945 في سان فرانسيسكو ليدرج نصا في مسودة المادة 4/2 من ميثاق الأمم المتحدة يحظر العقوبات الاقتصادية لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض.
2- العقوبات العسكرية:
وهي مجموعة من الإجراءات العسكرية التي يتخذها مجلس الأمن والهدف من ورائها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين على أساس شرعي من نص (المادة 42) من ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد على أنه إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في (المادة 41) غير كافية أو ثبت بالواقع العملي أنها غير كافية، فإن المجلس يمكن له – من خلال القوات الجوية والبحرية والبرية – اتخاذ عدد من التدابير اللازمة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين لإعادة الأوضاع السابقة إلى ما كانت عليه.[3]
إن حظر استخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدام العنف في حل النزاعات الدولية محظور ومجرم وفقًا (للمادة 2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن توجد استثناءات لتلك القاعدة العامة حيث يجوز للأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن أن تفرض عقوبات عسكرية كضمانة أساسية من أجل إرغام الدولة على احترام الالتزامات التي تثقل كاهلها بموجب القوانين الدولية، وندرج الحالة الكورية كمثال وهي المرة الأولى التي طبقت فيها إجراءات عسكرية ردًا على الهجوم العسكري الذي قادته القوات العسكرية الكورية الشمالية ضد كوريا الجنوبية.
ولقد أصدر مجلس الأمن القرار رقم 83 في 25 يونيو 1950 الذي أكد على أن هذا الصراع يعتبر خرقًا للسلام كما حث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على تقديم المساعدة لكوريا الجنوبية من أجل الرد على هذا الهجوم واستعادة السلم والأمن الدوليين في المنطقة، كما لجأ مجلس الأمن إلى تطبيق عدد من الإجراءات العسكرية القمعية ضد العراق بمناسبة غزو الكويت بموجب القرار رقم 678 الصادر في 29 نوفمبر 1990.
خامساً: سلطة مجلس الأمن في القيام بعمل عسكري:
يملك مجلس الأمن صلاحيات واسعة كما له سلطة اتخاذ الإجراءات العسكرية في حال ما إذا ارتأى أنها لازمة وذلك لأنه مسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين بموجب (المادة 24) من ميثاق الأمم المتحدة وقد تم تعزيز هذه السلطة (بالمادة 25) من الميثاق والتي نصت على التزام الدول الأعضاء في المنظمة بقرارات مجلس الأمن بمجرد الموافقة والتصديق عليها وهي نتيجة منطقية لأن تلك الدول أعضاء في ميثاق الأمم المتحدة حيث أن جميع أحكامها منطبقة على كافة الدول وذلك لأنها تستمد شرعيتها من وكالة قانونية سابقة باتخاذ قرار نيابة عنهم حسبما تراه مناسبًا.[4]
ويكون لمجلس الأمن اتخاذ تلك التدابير فور قيامه بتكييف الوضع بأنه يهدد السلم والأمن الدوليين، ومن المسلم به أن التكييف هو أحد القضايا الجوهرية المتطلبة موافقة غالبية أعضاء مجلس الأمن مع الأعضاء الخمسة الدائمين وفقًا (للمادة 27).
وغني عن البيان أن ذلك يؤدي إلى استحالة فرض عقوبات على أحد الدول الموالية لأي من الدول الخمس الدائمين، أو أن تكون فرض تلك العقوبات من شأنها أن تؤثر على مصالح أياً من تلك الدول، وذلك نظراً لما تتمتع به تلك الدول من حق الاعتراض – حق الفيتو – الذي يحول دون إصدار القرار حال استخدامه من أياً منهم.
وهذا ما يؤدي إلى حدوث حالة ازدواجية المعاملة العقابية مما يدفعنا إلى القول بأن مجلس الأمن – في العديد من الأحيان – يغض الطرف عن بعض الانتهاكات التي تنال من السلم والأمن الدوليين، وفي أحيان أخرى وفي وقائع مماثلة يهرع إلى التدخل ليفض النزاع بشتى الطرق السلمية منها وغير السلمية.
ووفقاً للقاعدة العامة لا يكون لمجلس الأمن أن يفوض أحد الدول في اتخاذ التدابير التي خولت له بموجب (المادة 42) من ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك يتعين على مجلس الأمن ألا يلجئ إلى تلك التدابير مباشرة، حيث يتوجب عليه بداية أن يحاول التوصل إلى حل النزاع بشتى الوسائل السليمة والتي تم النص عليها في الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، فإن بائت بالفشل فلا مناص من اللجوء إلى التدابير العقابية الواردة بالفصل السابع من الميثاق.
سادساً: الانتقائية في فرض التدابير غير العسكرية:
تُعد العقوبات الاقتصادية الصورة الأخطر للعقوبات غير العسكرية، نظراً لما تلحقه من أثار جسيمة تقع على الدولة وشعبها، وتلك العقوبات يعمد إليها مجلس الأمن كوسيلة لأكراه الدولة المخالفة لأحكام القانون الدولي لإرغامها للعودة إلى النهج القويم الذي يتعين عليها السير عليه في تعاملاتها الدولية، وفي العديد من الأحيان يوقع مجلس الأمن هذه الصورة من العقوبات ليس إلا لخدمة مصالح أحد الدول العظمى والتي يكون بيدها صناعة القرار في العديد من الأحيان.
وقد بدت العقوبات الاقتصادية على ليبيا مثالا واضحا على التمييز الذي مارسه مجلس الأمن بعد واقعة تفجير الطائرة الأمريكية “بانام” فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية عام 1988 حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في بيان مشترك مجموعة من الواجبات تجاه ليبيا لتورطها – على حد قولهم – في الحادث وأهمها تسليم مواطنيها المتهمين بالتفجير مع دفع تعويضات ضخمة لأسر الضحايا.
ولقد رفضت الحكومة الليبية هذا الطلب على أساس عدم وجود معاهدة لتسليم المجرمين بينها وبين الدول الغربية وطالبت أحكام اتفاقية مونتريال لعام 1971 بإحالة مثل هذه الخلافات إلى محكمة العدل الدولية بعد ذلك ورفعت الدول الغربية الموضوع إلى مجلس الأمن لإصدار القرار رقم 748 بتاريخ 31/3/1992 المتضمن إجراءات ضد ليبيا بموجب الفصل السابع بما في ذلك فرض حظر جوي وحظر بيع الأسلحة أو قطع الغيار المعدة للاستخدام في أغراض أمنية، ثم أصدر مجلس الأمن قرارا آخر برقم 93/883 تاريخ 11/11/1993 يتضمن تجميد الأصول المالية الليبية كما يتضمن القرار قائمة اسمية مفصلة لهذه المعدات باستثناء معدات الإنتاج المستخدمة في التنقيب عن النفط وما بعده.[5]
وبعد سنوات من الحصار قدمت جامعة الدول العربية اقتراحًا لإنهاء الأزمة يتطلب محاكمة المتهمين في بلد محايد والواقع أن الولايات المتحدة وبريطانيا وافقوا على ذلك، وانتهت المحاكمة في هولندا بإدانة متهمين اثنين وبراءة الآخر وصدر القرار الأمني رقم 1192 تاريخ 28/8/1998 بتعليق العقوبات المفروضة على ليبيا منذ عام 1992 وتعويض أهالي الضحايا بمبلغ عشرة ملايين دولار عن كل متوفى.
وما يعنينا في الحالة الليبية هو أن الإجراءات الاقتصادية التي كان من المفترض أن تهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن العالميين في إطار العقوبات الدولية تحولت لأداة انتقام لصالح القوى الكبرى بسبب الصلاحيات الواسعة الممنوحة إلى مجلس الأمن وفقًا (للمادة 39) والتي تتضمن الحرية المطلقة في التصرف عن طريق التكيف دون الاعتماد على معايير موضوعية محددة وتكيف المجلس مع حادثة لوكربي كتهديد دولي للسلام والأمن يثير العديد من التساؤلات حيث أن حوادث إسقاط المدنيين للطائرات من الجرائم المرتكبة سابقًا من قبل أفراد ودول كثيرة لكن لم يتم تكيفها بأنها تمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين كما حدث في ليبيا فنجد مثلا حالة الطائرة المدنية الإيرانية التي أسقطتها سفينة حربية أمريكية في بحر الخليج عام 1988 نتج عنها وفاة 290 شخصًا حيث لم يتم تسليم قبطان السفينة إلى إيران للمحاكمة، وغير ذلك حيث أسقط السوفييت طائرة ركاب على مقربة من بحر اليابان، بالإضافة إلى حادثة إسقاط طائرة مدنية فوق سيناء من قبل إسرائيل ولم يحرك مجلس الأمن ساكناً في تلك الوقائع المشابهة.
وعند البحث وراء الحالة الليبية نتساءل لماذا توجب أن يكون التكيف مع تهديد السلم والأمن الدوليين فوريًا رغم أن التكيف لم يتوافق مع الحقائق وقتها لأن مجلس الأمن تأخر لسنوات قبل أن يقرر أنه يهدد السلام والأمن، بالإضافة إلى ذلك لم يشرع المجلس في حل، ولقد قبل، بل ولجأ مباشرة إلى اتخاذ إجراءات عقابية اقتصادية لتلبية رغبات الدول الكبرى المتورطة في الصراع.
إضافة إلى ذلك صدور قرار فرض العقوبات على ليبيا بحضور وتصويت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا رغم أنمه أطراف في النزاع المعني وهذا يتعارض مع أحكام (المادة 27) من الميثاق والمبدأ القانوني القائل بأنه “لا يمكن لأي طرف أن يكون محكماً في قضية يكون طرفاً فيها”.
كما أن قرارات المجلس بفرض الحصار قبل صدور أي إدانة من أي محكمة واستناداً إلى معلومات استخبارية فقط لتتحمل بذلك الحكومة الليبية مسؤولية تبعات الحصار الجائر على الشعب الليبي خاصة وأن العقوبة يجب أن تقتصر على المحكوم عليه فقط إلا إنها بما شملت الجانب الليبي حكومة وشعبا ومن هنا ظهر انتهاك لمبدأ المساواة تجاه ضرورة فرض عقوبة مناسبة على الدول التي تنتهك قواعد القانون الدولي، وتنبع هذه الازدواجية من أحكام الميثاق التي تمنح الأعضاء الدائمين وضعًا متميزًا من جهة وتفويض المجلس بإصدار قرارات تنفيذية لا يقبل الطعن فيها عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين من جهة أخرى.[6]
سابعاً: الازدواجية في اتخاذ الإجراءات العسكرية (أزمة الخليج الثانية 1990):
كشفت الأزمة الخليجية عام 1990 عن الازدواجية الحقيقية في تاريخ مجلس الأمن وعدم المساواة بين الدول من خلال التعامل مع القضايا المتعلقة بالتهديدات للسلم والأمن الدوليين أو حالات العدوان وهذا ما سنحاول معالجته بشيء من التفصيل في نقطتين على النحو التالي:
1- حقائق أزمة الخليج الثانية عام 1990:
مع مطلع أغسطس 1990 أقدمت القيادة العراقية على غزو دولة الكويت فأرسلت القوات العراقية للأراضي الكويتية وتدخلت الأمم المتحدة بإصدار عدة قرارات من مجلس الأمن في سياق الفصل السابع وفي نفس اليوم أصدر مجلس الأمن القرار رقم 660 مطالبًا العراق بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الكويت وبتاريخ 6/8/1990 أصدر مجلس الأمن قرارًا جديدًا يحمل رقم 661 بفرض عقوبات اقتصادية لضمان امتثال العراق وإعادة السلطة إلى حكومة الكويت مع التعنت العراقي على تنفيذ قرارات مجلس الأمن وتم إرسال قوات عسكرية من 72 دولة بالإضافة إلى مشاركة عربية كبيرة مثل: سوريا ومصر ودول الخليج العربي.
2- الانتقائية في فرض العقوبات العسكرية:
تضمنت قرارات مجلس الأمن عدد من العمليات العسكرية ضد العراق تلبية لمتطلبات الشرعية الدولية واعتبر ما فعله نظام صدام حسين عدواناً على دولة ذات سيادة وانتهاكاً للقوانين والأعراف الدولية وكان التدخل الدولي من قبل مجلس الأمن مبررًا بموجب (المادة 51 ) المتعلقة بالدفاع المشروع، ولكن في مرحلة لاحقة من تطور الأزمة اتضح تخلي الأمم المتحدة عن دورها في المراقبة والإشراف على تنفيذ القرار الصادر من قبل مجلس الأمن رقم 678/1991 في 3/4/1991، والذي سمح للدول المتحالفة مع الكويت وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ القرار بالشكل الذي يتوافق مع مصالحها وبعيداً عن هدف تحرير الكويت وهو ما يمثل انحراف غير شرعي عن قرارات مجلس الأمن عن الأهداف الأصلية.
ولقد كان التفويض الأصلي الوارد في القرار رقم 678 الصادر عن مجلس الأمن يستهدف استعادة سيادة الكويت بتحقيق الانسحاب الكامل للقوات العراقية من الأراضي التي احتلتها وبالتالي فإن أي قوة تُستخدم خارج هذا الإطار ستصبح غير قانونية دوليًا وهو ما حدث بالفعل حيث أثبتت الوقائع اللاحقة انسحاب قوات التحالف من مهمتها بعد أن بالغت في استخدام القوة ضد الدولة العراقية وشعبها وسلطتها، رغم أن الانسحاب العسكري جاء بعد أقل من شهرين، وهو ما اعتبر مبالغة غير متناسبة من حيث أن ردة الفعل الدولية كانت لها عواقب وخيمة على العراق، وعلى الرغم من شرعية قرارات الأمم المتحدة إلا أن تداعيات حرب عام 1990 وأضرارها منعكسة على هذا البلد العربي حتى الوقت الحاضر مما يجعله أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا غير مستقر.[7]
ومن الأمثلة السابقة نرى أن الأمم المتحدة كرست الازدواجية وعدم المساواة في التعامل مع قضايا العدوان والتزمت الصمت في وجه الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والذي كان خرقا للقواعد والمبادئ الدولية المنصوص عليها في الميثاق واعتداء على دولة ذات سيادة دون أي مبرر قانوني ولم توقع على أي عقوبات عسكرية ضدها والاعتداء الإسرائيلي المتكرر على غزة – خاصة هجوم 27 ديسمبر 2009 – الذي استمر قرابة الشهر واستخدامه للقوة العسكرية والأسلحة المحظورة دوليًا مثل (الفوسفور الأبيض) بحق المدنيين وارتكاب جرائم حرب كاملة وترك 1500 شخص وراءهم والتهرب من فرض أي عقوبات مؤكدين حقيقة الازدواجية في هذا المجال.
إعداد/ أميــــرة سعيد.
[1] علي صادق أبو هيف، “القانون الدولي العام”، منشأة المعارف الإسكندرية، 2015، الطبعة الثالثة، ص 273.
[2] بلحسن الهواري “الأساس القانوني لتوقيع العقوبات الاقتصادية الدولية بمنظمة الأمم المتحدة” مجلة الواحات للبحوث والدراسات المجلد 9 العدد الأول الجزائر ص 111
[3] سعيد سالم جويلي، استخدام القوة المسلحة في القانون الدولي العام في زمن السلم، المجلة القانونية الاقتصادية جامعة الزقازيق، العدد الخامس 1993 ص 63.
[4]أحمد أبو العلا، تطور دور مجلس الأمن في حفظ الأمن والسلم الدوليين، جامعة الزقازيق كلية الحقوق، 2004، ص 380.
[5] أحمد سيف الدين، مجلس لأمن ودوره في حماية السلام الدولي، منشورات الحلبي الحقوقية لبنان، الطبعة الأولى، 2012، ص 175.
[6] جاسم محمد ذكريا، مفهوم العالمية في التنظيم الدولي المعاصر، منشورات الحلبي الحقوقية لبنان، 2006، ص 360.
[7] سامي شبر، جزاءات الأمم المتحدة ضد العراق والإبادة الجماعية، بيت الحكمة بغداد، الطبعة الأولى، 2002، ص 40.