التفريد العقابي

التفريد العقابي في القانون الأردني

تعتبر الجريمة من أقدم المشاكل التي عانى منها أفراد المجتمع، وهي تعد نتيجةً طبيعيةً لعلاقتهم، ومصالحهم المتعارضة، وفي سبيل مواجهة تزايد عدد الجرائم وبشاعتها؛ كان يتم توقيع عقوبات قاسية على مرتكبي هذه الجرائم، وبقي الوضع على حاله حتى ظهور المدارس العقابية من بينها المدارس التقليدية حيث أهم ما نتج عنها، هو إعمال مبدأ الشرعية والعدالة والمنفعة الاجتماعية، وأيضًا ما جاءت به المدرسة الوضعية من اهتمام بالجاني من خلال إعمال تدابير احترازية، وإتباع أساليب عقابية حديثة، تقوم على أساس العدالة والمساواة ذلك من خلال وجود تناسب دقيق بين درجة جسامة الفعل الإجرامي، وبين درجة جسامة الجزاء الجنائي من حيث نوعه ومقداره وأسلو ب تنفيذه من جهة، ومن جهة أخرى أن يتناسب هذا الجزاء مع ظروف المجرم، فتفريد العقوبة يقوم على أساس أن الجناة غير متساوون، ويُعد التفريد العقابي من أهم الأساليب العقابية التي اهتدى إليها الفكر العقابي، محاولًا بـذلك القضاء على العيوب الناجمة عن استعمال مبدأ المساواة المطلقة فـي معاملـة كـل الجناة، بالإضافة الى أنها تحقق العدالة العقابية؛ لذا سوف نتناول في هذا المقال مفهوم التفريد العقابي، والتعرف على صور هذا التفريد العقابي في القانون الأردني ذلك من خلال العناصر الرئيسية الآتية:

أولًا: المقصود بالتفريد العقابي في القانون الأردني

ثانيًا: التفريد التشريعي للعقوبة في القانون الأردني

ثالثًا: التفـريد القضـائي للعقوبة في القانون الأردني

رابعًا: التفريد التنفيذي للعقوبة

خامسًا: السوابق القضائية المتعلقة بالتفريد العقابي في القانون الأردني

سوف نتناول شرح كلًا من العناصر الرئيسية السابقة فيما يلي:

 أولًا: المقصود بالتفريد العقابي في القانون الأردني

يُقصد بالتفريد العقابي في القانون الأردني بأنه: “اختلاف العقوبة باختلاف ظروف الجاني، وأحواله، وطبيعة شخصيته، وذلك بهدف التفريد وقد ركز هذا التعريف على الظروف الموضوعية الملابسة للجريمة، كما أنه أشار إلى الغرض من العقاب وحصره في الإصلاح لوحده”([1])

ويسعى المشرع إلى التدرج في العقوبة حسب ظروف كل جريمة، غير أن المشرع يُقدر جسامة الجرم وفق حدين، هما: حد أقصى وآخر أدنى مع ترك حرية الاختيار بينهما للقاضي وفق ما يراه مناسبًا.

ثانيًا: التفريد التشريعي للعقوبة في القانون الأردني

يُعرف الفقه الجنائي التفريد التشريعي للعقوبة على أنه: “ذلك التفريد الذي يتولاه المشرع ذاته محاولًا به أن يجعل من العقوبة جزاءً متناسبًا ومتلائمًا مع الخطورة المادية للجريمة من ناحية، بما تتضمنه الجريمة من خطر على المجتمع، أو ما يمكن أن تُحدث به ضررًا على الظروف الشخصية للجاني التي أمكن له أن يتوقعها أو يتنبأ بها وقت تحديده للجريمة، والعقوبة أي لحظة وضع نص التجريم والعقاب”([2])

والمشرع هو الذي يُحدد مبدئيًا العقوبة تطبيقًا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إلا أنه في كثير من الحالات لا يستطيع القيام بذلك بشكل محدد، فإذا كان وقت وضع النص التشريعي يُقدر خطورة الجريمة، ويُحدد تبعًا لها العقوبة الملائمة، إلا أنه على يقين بأن مرتكب هذه الجريمة ليس دائمًا على هذه الدرجة من الخطورة الإجرامية، حيث أن ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة تختلف من مجرم إلى مجرم أخر ارتكب نفس الجرم، وغالبًا ما يضع المشرع عقوبتين للفعل كالإعدام أو السجن المؤبد في بعض الجنايات، والحبس أو الغرامة أو كليهما في بعض الجنح، ويترك للقاضي سلطة تقديرية تتناسب مع وقائع الدعوى.

 وحيث يرى المشرع في بعض الحالات أن العقوبة التي وضعها للجريمة لا تتلاءم مع ظروف ارتكابها، سواء ما تعلق منها بالجريمة ذاتها أو بمرتكبها، ويرى أن هذه الظروف تستدعي إما تخفيف العقاب وإما تشديدها؛ فينص على ذلك، وقد يكون التخفيف أو التشديد وجوبًا على القاضي، أي يلتزم الأخير بتنفيذه دون أن يكون له أي سلطة تقديرية في هذا الشأن، وقد يكون اختياريًا له. ومن أجل إيضاح الأمر أكثر نعرض الأعذار التي تكون مخففة للعقاب، بالإضافة إلى ذكر الظروف المشددة للعقاب، وذلك فيما يلي:

١– الأعذار المخففة للعقوبة:

يمكن بيان الأعذار المخففة عن طريق تعريفها وذكر أنواعها على النحو التالي:

  • المقصود بالأعذار المخففة للعقوبة:

هي الحالات التي حددها المشرع على سبيل الحصر، ويلتزم بها القاضي بأن ينزل عن العقوبة المقررة للجريمة وفقًا للقواعد المحددة في قانون العقوبات، وقد تولى المشرع تعيينها، فوضح كل عذر والوقائع التي يفترضها، ومدى التخفيف عند توافره، ومن ثمَّ لا يستطيع القاضي أن يعتبر العذر متوافرًا إلا إذا توافرت الشروط التي حددها القانون، ولا يستطيع القاضي إذا توفر العذر أن ينكر وجوده، وأن يمتنع عن تخفيف العقاب بناءً عليه.

“والظروف المخففة بمعناها الواسع تعود إلى نظامين: الأول الأعذار القانونية، والثاني الظروف القضائية المخففة، ويتمثل الفرق بينهما في أن المشرع قد حدد الأعذار القانونية على سبيل الحصر، مع إلزام القاضي بالتخفيف عند توافرها، بينما لم يحدد الظروف القضائية المخففة، بل ترك للقاضي سلطة استخلاص ما يعتبره بالنظر إلى ظروف معينة بصفتها مبررًا لتخفيف العقوبة، مع جعل التخفيف جوازي له في هذه الحالة”([3]) ، “فالأعذار المخففة وسيلة من وسائل التفريد التشريعي، بينما يعد نظام الظروف المخففة وسيلة من وسائل التفريد القضائي”([4]).

  • أنواع الأعذار القانونية المخففة للعقوبة:

تنقسم الأعذار القانونية المخففة إلى أعذار مخففة عامة، وأعذار مخففة خاصة

أ· الأعذار المخففة الخاصة:

“وهي أعذار قانونية يقتصر نظامها على جريمة معينة أو عدد محدد من الجرائم نص عليها القانون صراحةً، بحيث لا تنتج أثرها إلا بالنسبة لهذه الجرائم دون غيرها، ويستفيد منها الجاني إذا توافرت شروطها فيه، وهذا النوع من الأعذار هو تجسيد لفكرة التفريد التشريعي للعقوبة، بحيث يمنح المشرع مرتكبي بعض الجرائم فرصة الاستفادة منها في بعض الحالات، وفي نطاق الظروف التي قد تحيط بالجريمة، أو بشخص مرتكبها”([5]).

ومن أهم تطبيقات الأعذار المخففة الخاصة في التشريع الأردني ما يلي:

١- الحالة التي نصت عليها (المادة ٣٠٣) من قانون العقوبات في قضايا الخطف عندما يقوم الخاطف بإرجاع المخطوف خلال يومين دون أن يكون قد اعتدى عليه. والحكمة من ذلك هي تشجيع الخاطف في الرجوع عن الخطف وعدم الاستمرار به، وحتى يتمكن الخاطف من الاستفادة من العذر القانوني المخفف لابد من توافر شروط معينة منها:

أن يعيد الخاطف من تلقاء نفسه المخطوف إلى مكان أمين وأن يعيد حريته إليه، وأن يتم إعادة المخطوف خلال ثمان وأربعين ساعة من وقوع الخطف، وألا يتم مساس المخطوف بشرفه أو عرضه أو إتيان فعل منافٍ للحياء معه أو بأي جريمة أخرى تؤلف جناية أو جنحة.

ب· الأعذار المخففة العامة:

وهي التي يمكن لأي مرتكب للجريمة أن يستفيد منها إن توافرت شروطها فيه، وهذه الظروف تشمل جميع الجرائم بدون استثناء، أي هي التي يقررها المشرع ويحددها، فينصرف أثرها في التخفيف الوجوبي إلى جميع الجرائم، وهذه الأعذار ملزمةٌ للقاضي فمتى توافرت عناصرها، وتحققت شروطها، وجب على المحكمة أن تأخذ بها وأن تُنزل بالعقوبة إلى ما دون الحد الأدنى بالقدر الذي يحدده القانون، وإلا كان الحكم معيبًا.

ومن أهم تطبيقات الأعذار المخففة العامة في التشريع الأردني عذر الاستفزاز الذي نصت عليه (المادة ٩٨) من قانون العقوبات الأردني بقولها: “يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بسوره غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه”، ويتبين من هذا النص أن المشرع قد جعل الاستفزاز عذرًا قانونيًا مخففًا؛ لأنه يُضعف ويُنقص من سيطرة الجاني على إرادته؛ الأمر الذي يترتب عليه انتقاص من صلاحيته للمسؤولية.

 ٢- الظروف القانونية المشددة:

نُبين المقصود من الظروف القانونية المشددة وأنواعها على النحو الآتي:

  • المقصود بالظروف القانونية المشددة:

“هي الحالات التي يجب فيها على القاضي أو يجوز له أن يحكم بعقوبة من نوع أشد مما يقرره القانون للجريمة، أو يجاوز الحد الأقصى الذي وضعه القانون لعقوبة هذه الجريمة، فقد شرع المشرع أسباب التشديد ضمن نصوص قانون العقوبات الأردني، وهذه الأسباب تستدعي ردع الجاني ومعاقبته بأكبر قدر ممكن من الشدة بحيث تفوق العقوبة المقررة فـي الأحـوال العاديـة وتفسح المجال أمام القاضي لممارسة صلاحياته التقديرية كقاضٍ لمحكمة الموضـوع، وضـمن حدود التشديد التي أقرها القانون، وذلك بتجاوز الحد الأعلى للعقوبة المقررة في الأصل للجريمة الأحوال العادية، أو بتغيير نوع العقوبة إلى عقوبة أشد”([6])

  • أنواع الظروف القانونية المشددة:

ينحصر أنواع الظروف القانونية المشددة فيما يلي:

أ-الظروف العينية أو المادية والظروف الشخصية:

وتنقسم الظروف المشددة من حيث تعلقها بالركن المادي أو المعنوي للجريمة الى ظروف مشددة مادية وظروف مشددة شخصية.

 -الظروف العينية أو المادية:

 هذه الظروف تتعلق بالملابسات العائدة للجانب المادي أو العيني في الجريمة، ككيفية ارتكابها، أو مكان اقترافها، أو زمن اقترافها، أي الظروف المتعلقة بموضوع الجريمة من حيث اتصالها بالمجني عليه، أو بالفعل الجرمي، أو بنتيجة الجريمة.

-الظروف الشخصية:

وهي تلك التي تتعلق بصفات خاصة بشخص الجاني، أو بطبيعة علاقته بالمجني عليه، أو بدرجة جسامة خطئه العمدي أو غير العمدي، وهذه الظروف التي تتعلق بشخص المجرم أبرزها الباعـث الـذي دفعـه إلى ارتكـاب الجريمة، وشدة خطورة إرادته الجنائية المتمثلة في سبق إصراره على ارتكاب الجريمة.

 ب-الظروف المشددة الخاصة والعامة:

تنقسم الظروف المشددة من حيث شمولها لعدد محدد من الجرائم أو غير محدد الى ظروف مشددة خاصة وظروف مشددة عامة.

-الظروف المشددة الخاصة:

 هي الظروف المنصوص عليها في القانون، والتي ليست لها صفة العموم في جميع الجرائم، بل إنها خاصةً ببعض الجرائم، أي هي التي يقتصر أثرها من حيث وجوب التشديد وجوازه على جريمة أو جرائم معينة حددها القانون، ومن أجل ذلك ذكرها المشرع الجنائي الأردنـي في مواد متفرقة في المواضع التي قررها فيها.

-الظروف المشددة العامة:

هي التي يعم حكمها في التشديد جميع الجرائم أو غالبيتها، ومثالها التكرار وهي ظروف يحددها المشرع، ويلتزم القاضي بتشديد عقوبة الجريمة عند توافر أي من هذه الظروف فيها.

٣- الأعذار القانونية المعفية من العقوبة:

من أجل بيان الأعذار القانونية المعفية من العقوبة يتعين تعريف الأعذار القانونية ثم بيان أسبابها وفي الأخير بيان الأثر القانوني لها وذلك فيما يلي:

  • المقصود بالأعذار القانونية المعفية من العقوبة:

الأعذار المعفية من العقوبة هي: “الظروف أو الأسباب المنصوص عليها في القانون، التي من شأنها إعفاء الفاعل من العقوبة على الرغم من قيام مسؤوليته، وتُسمى أيضًا بموانع العقاب؛ لأنها تحول دون الحكم بالعقوبة رغم ثبوت الجريمة، وقد حدد القانون الأعذار المعفية في كل حالة على حده ووضع لها شروطًا خاصة”([7])

 وقد نصت (المادة ٩٦) من قانون العقوبات الأردني على أن: “العذر يعفي المجرم من كل عقاب على أنه يجوز أن تنزل به عند الاقتضاء تدابير الاحتراز كالكفالة الاحتياطية”.

  • أسباب منح الأعذار المعفية من العقاب:

تختلف أسباب منح الأعذار المعفية من العقاب وفقًا لما يلي:

١- قد يتقرر الإعفاء من العقاب بناءً على اعتبارات المصلحة أو المنفعة التي يقدمها الجاني للدولة، وذلك عن طريق الإبلاغ عن جريمة وقعت أو سوف تقع أو التسهيل في إثبات التهمة على مرتكبها، مثال ذلك ما نصت عليه (المادة ١٧٢/2) من قانون العقوبات الأردني: “يعفى الراشي والمتدخل من العقوبة إذا باحا بالأمر للسلطات المختصة أو اعترفا به قبل إحالة القضية إلى المحكمة “

٢-قد يتقرر الإعفاء بسبب إصلاح الجاني الضرر الناتج عن الجريمة المرتكبة من جانبه.

٣-قد يتقرر الإعفاء بقصد تشجيع الجاني على عدم الاسترسال في عمله الإجرامي، ولو لم يؤدِ للمجتمع أي خدمات أخرى. ومثال ذلك في التشريع الأردني ما ورد في (المادة ١٦٦) من قانون العقوبات الأردني التي نصت على أنه: “يعفى من العقوبة المفروضة في (المادة ١٦٥) الذين ينصرفون قبل إنذار ممثلي السلطة أو الضابطة العدلية أو يمتثلون في الحال لإنذارها دون أن يستعملوا سلاحًا أو يرتكبون أي جناية أو جنحة”

٤- قد يتقرر الإعفاء للحفاظ على العلاقات العائلية ورابطة القرابة، حيث يُقرر القانون الإعفاء لاعتبارات وروابط أسرية وصلة القرابة، فقد قضت محكمة التمييز الأردنية بأنه: “يُعفى من العقوبة الشاهد الذي يحتمل أن يتعرض إذا قال الحقيقة لضرر فاحش له مساس بحريته أو شرفه أو يعرض لهذا الضرر الفاحش زوجته ولو طالقًا أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوانه أو أخواته أو أصهاره من الدرجة ذاتها”.

وقد نصت (المادة ٩٥) من قانون العقوبات الأردني بقولها: “لا عذر على جريمة إلا في الحالات التي عينها القانون”، ولا يستفيد من الأعذار المعفية إلا من قام بحقه هذا العذر، فهي ذات أثر شخصي يقتصر تأثيرها على من توافر في حقه من المساهمين.

  • الأثر القانوني للأعذار المعفية:

“يترتب على الأعذار المعفية؛ منع العقوبة عن الجاني وإعفاؤه منها، ولو أن شروط المسؤولية الجزائية متوافرة فيه، أي أن الفعل الذي وقع يبقى كما هو جريمة في القانون، ويترتب على ذلك أن إعفاء المجرم الذي تعلق العذر بشخصه لا أثر له على من يكون قد ساهم معه فـي ارتكاب الجريمة سواء بصفته فاعلًا أم شريكًا، والعذر يعفي المجرم من كل عقاب سواء أكانت العقوبة أصليةً أم عقوبةً تكميليةً، كما أنه مـن الجائز أن يسأل المعفى نفسه مسؤولية مدنية عن الأضرار التي تكون قد نشأت عن جريمته”([8]).

وقد نصت (المادة ٩٦) من قانون العقوبات الأردني على أن: “العذر المحل يعفي المجرم من كل عقاب على أنه يجوز أن تنزل به عند الاقتضاء تدابير الاحتراز كالكفالة الاحتياطية”، والمقصود بالعقاب في هذه المادة العقوبة الجزائية؛ فلا يمتد الإعفاء إلى المسؤولية المدنية بأي حال من الأحوال، ويبقى الجاني مسؤولًا مدنيًا عن نتائج جريمته وهذا هو الرأي الراجح في الفقه.

ثالثًا: التفـريد القضـائي للعقوبة في القانون الأردني

إذا كنا قد بينا سابقًا التفريد التشريعي للعقوبة في القانون الأردني، فسنتناول في هذا العنصر التفريد القضائي للعقوبة في القانون ذاته، وذلك فيما يلي:

١- المقصود بالتفريد القضائي للعقوبة:

يُقصد بالتفريد القضائي للعقوبة بأنه: “هو ذلك الذي يتولاه القاضي في حدود القواعد والمبادئ التي يقررها المشرع بقصد الحكم بالعقوبة المناسبة للجريمة، ولظروف مرتكبها، أي أنه يتمثل في اختيار القاضي نوع وقدر العقوبة، أو التدبير الملائم لحالة الجاني على ضوء ما تسفر عنه دراسة شخصية وظروف حياته، والحصول على كل المعلومات المتصلة بشخصه، وصفاته الخاصة، والأسباب التي أدت به إلى ارتكاب الجريمة لتكون محل اعتبار عند اختيار العقوبة المناسبة”.

وتقوم فكرة التفريد القضائي على أساس أن المرحلة الحقيقية لتحقيق التفريد هي مرحلة النطق بالحكم؛ لا مرحلة وضع النص التشريعي الخاص بالجريمة، ويتحقق التفريد إذا أعطي المشرع القاضي سلطةً تقديريةً واسعةً، وحاول الأخير في نطاق هذه السلطة أن يُحدد العقوبة التي يراها ملائمةً لظروف المتهم، ويتمتع القاضي بهذه السلطة إذا جعل المشرع العقوبة بين حدين، حد أقصى وهو أقصى ما يقدره وفقًا لجسامة الفعل المجرم، والحد الأدنى وهو أدنى ما يتصوره من عقاب للجريمة، ويمثل التفريد القضائي أهم أنواع التفريد وأعمقها أثرًا في معاملة الجاني.

٢- مظاهر التفريد القضائي للعقوبة:

تتمثل أهم مظاهر التفريد القضائي على النحو الآتي:

  • سلطة القاضي في التدريج الكمي للعقوبة:

يتمثل التدريج الكمي القضائي للعقوبة في تحديد المشرع حدًا أدنى، وحدًا أعلى للعقوبات التي تقبل طبيعتها التبعيض، كالعقوبات السالبة للحرية والغرامة، وترك للقاضي سلطة تقدير العقوبة بين هذين الحدين، وتتفق جميع القوانين المعاصرة في قبول هذا النظام، ولكنها تختلف فيما بينها من حيث طريقة ومدى التدريج، وللتدريج الكمي طريقتان هما:

الطريقة الأولى: التدرج الكمي الثابت:

يكون التدريج الكمي للعقوبة ثابتًا عندما يحدد لها المشرع حدًا أدنى وحدًا أعلى ثابتين، سواء أكانا حدين عامين أم حدين خاصين، أم حدًا أدنى عام، وحدًا أعلى خاص، أم حدًا أدنى خاص وحدًا أعلى عام، ويتضح أن مطلب غالبية الفقهاء هو تحديد حد أعلى خاص لعقوبة كل جريمة باعتبار أن ذلك يمنع تحكم القضاة بالإضافة الى كونه ضمانًا لصيانة حقوق المواطنين وحرياتهم من تعسف القضاء نادر الوقوع، كما أن تحديد الحد الأدنى الخاص ضروري لكفالة العدالة وتحقيق الردع العام، والبعد بالقاضي عن التطرف في الرأفة.

الطريقة الثانية: التدرج الكمي النسبي:

الغرامة هي العقوبة الوحيدة التي يحدد لها المشرع أحيانًا نطاقًا كميًا نسبيًا، يلزم القاضي بتدريج مقدارها بالنسبة لقيمة المال محل الجريمة وهو تدريج موضوعي، أو بالنسبة للدخل اليومي للمجرم وهو تدريج شخصي، وقد أخذ قانون العقوبات الأردنـي بالغرامات النسبية، وذلك في المادة (٤٢١/3) من قانون العقوبات التي قررت بأنه: “على المحكمة أن تحكم في حالة إسقاط المشتكي حقه الشخصي، أو إذا أوفى المشتكي عليه قيمة الشيك بغرامة تعادل (٥%) من قيمة الشيك على أن لا تقل عن مائة دينار حتى بعد صدور الحكم أو اكتسابه الدرجة القطعية”.

  • سلطة القاضي في الاختيار النوعي للعقوبة:

يمنح هذا النظام للقاضي حرية كاملة في الحكم بالعقوبة التي يراها مناسبة من بين العقوبات التي رصدها المشرع للجريمة، مراعيًا في ذلك شخصية المجرم، ظروفه، وملابسات جريمته ضمن موجهات السياسة الجنائية المعاصرة، وتستند سلطة القاضي في الاختيار النوعي للعقوبة إلى نظامي العقوبات التخييرية والعقوبات البديلة على النحو الآتي:([9])

النظام الأول: نظام العقوبات التخييرية:

في بعض الحالات يُحدد المشرع العقوبة على سبيل القطع، وذلك بالنص على عقوبة واحدة دون أن يترك للقاضي قدر من الملائمة في تحديدها، كما هو الحال في عقوبة الإعدام، وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، إذ لا يمكن للقاضي هنا تفريد النص الجنائي وفقًا للواقعة المادية للجريمة المرتكبة، وشخصية الجاني، غير أنه في حالات آخري يترك القانون للقاضي حرية الاختيار في الحكم على المجرم بإحدى عقوبتين مختلفتي النوع أو بكليهما، أو بعقوبة واحدة، أو عقوبتين من بين ثلاث عقوبات أو أكثر مختلفة النوع، محددة للجريمة المعينة التي ارتكبها ذلك المجرم، وهو ما يسمى بالتخيير النوعي للعقوبة، والقانون لا يلزم القاضي بقاعدة معينة عند الاختيار، ولكن يتعين عليه مراعاة الواقعة المادية والموضوعية للجريمة المرتكبة، وشخصية الجاني.

النظام الثاني: نظام العقوبات البديلة:

يقوم هذا النظام على تخويل القانون للقاضي سلطة إحلال عقوبة معينة محل عقوبة من نوع آخر يمكن الحكم بها أو تم الحكم بها على مجرم مهما كان نوع جريمته، ويمكن القول بأن العقوبة البديلة هي وسيلة وفاء بالعقوبة الأصلية عند تعذر تنفيذ العقوبة الأصلية، أو وجود احتمال بتعذر تنفيذها، أو لاعتقاده بملاءمة العقوبة البديلة اكثر من العقوبة الأصلية لحالة المجرم الشخصية بغض النظر عن ظروف الجريمة التي ارتكبها، وذلك بحسب ما يراه القاضي مناسبًا، ومن صور أعمال العقوبات البديلة، إحلال عقوبة سالبة للحرية محل عقوبة الغرامة، وإحلال عقوبة الغرامة محل عقوبة سالبة للحرية.

  • الظروف القضائية المخففة:

هي أسباب متروكة لتقدير القاضي تخوله حق تخفيض العقوبة في الحدود التي عينها القانون، وهي تتناول كل ما يتعلق بماديات العمل الإجرامي في ذاته، ويتعلق بشخص المجرم الذي ارتكب هذا العمل، وبمن وقعت عليه الجريمة، فالمشرع قد حدد عقاب أغلب الجرائم بحدين أدنى وأعلى، وترك للقاضي الحرية في تفريد العقاب حين مكنه من أن يحكم بعقوبة واقعة بين الحدين الأدنى والأعلى كما هي واردة في النص القانوني، فالقاضي في دعوى معينة مطروحة أمامه قد يرى أن الظروف التي استخلصها منها تستدعي الرأفة بالجاني أكثر من النزول بالعقوبة إلى الحد الأدنى المقرر لها، أو الحكم عليه بأخف العقوبتين المقررتين للجريمة، ولم يحدد المشرع الأسباب التقديرية المخففة، ويرجع ذلك يعود إلى أن هذه الأسباب كثيرة ومتجددة، بحيث لا يمكن الإحاطة بها كلها، كما أن القضاة يختلفون في نظرتهم إليها، وتتفاوت آراؤهم في تقديرها، ومن أجل ذلك ترك المشرع تقدير هذه الأسباب المخففة للقاضي دون أن يبين مضمونها أو يحدد حدودها([10])

  • الظروف القضائية المشددة:

هي الحالات والأفعال الموضوعية أو الشخصية التي تؤثر أو يمكن أن يؤثر على تشديد العقوبة المرتكبة، وهي حالات يحددها المشرع، ويُجيز للقاضي عند اقتران أحدها بالجريمة أن يرفع الحد الأعلى لعقوبة الجريمة، أو إحلال عقوبة من نوع أشد محلها، وأسباب تشديد العقاب قد تكون جوازيةً، وقد تكون وجوبيةً على القاضي.

وقد نص قانون العقوبات الأردني في (المواد ١٠١ – ١٠٢ – ١٠٣- ١٠٤) التي عالجت التكرار قد جعل تشديد عقوبة المكرر واجبة، بحيث الزم القاضي تشديد العقوبة ولم يترك هذا الأمر جوازيًا للقاضي.

وهناك حالات شدد قانون العقوبات الأردني العقاب فيها إذا اقترن الفعل بظرف مشدد، فيعاقب على الفعل بعقوبة جنائية، في حين أنه لو لم يوجد مثل هذا الظرف لكانت الجريمة جنحة. مثال ذلك: جريمة الإجهاض المنصوص عليها في (المادة ٣٢٢/1) من قانون العقوبات، حيث تنص هذه المادة على أن: “من أقدم بأية وسيلة كانت على إجهاض امرأة برضاها، عوقب بالحبس من سنة الى ثلاث سنوات، فإذا كان الإجهاض عن دون رضا المرأة؛ فإن العقوبة تكون الأشغال الشاقة مدة لا تزيد على عشر سنوات.

  • الامتناع عن النطق بالعقوبة:

يعرف الفقه الامتناع عن النطق بالعقوبة بأنه: “نظام يقتضي الامتناع عن النطق بعقوبة على المتهم لفترة زمنية محددة، إذا سلك خلالها سلوكًا حسنًا، مع جواز وضعه خلال تلك الفترة تحت رقابة شخص تعينه المحكمة، أو تكلفه بتقديم كفالة عينية أو شخصية”، ويعرفه البعض الأخر من الفقه بأن الامتناع عن النطق بالعقاب: “هو صدور حكم بالإدانة على المتهم مع عدم النطق بعقوبة معينة”.

– مميزات نظام الامتناع عن النطق بالعقوبة:

إن لهذا النظام مجموعة من الامتيازات عن غيره من نظم التفريد القضائي ومن هذه المميزات:

  1. يقوم هذا النظام على أساس عدم النطق بعقوبة خلال مدة تقررها المحكمة، مما يجنب الجاني الوصمة الاجتماعية نهائيًا. ويتميز هذا النظام عن نظام إيقاف التنفيذ؛ لأن الإيقاف يقتضي دائمًا النطق بالعقوبة في الحكم ثم إيقاف تنفيذها المدة المقررة قانونًا، ولا شك أن مجرد النطق بعقوبة يؤدي إلى إلحاق وصمة بالمحكوم عليه، ولو كان تنفيذ هذه العقوبة موقوفًا.
  2. يؤدي إلى استفادة الجاني من عدم حبسه في حالة تنفيذ الالتزامات المفروضة عليه في الحكم.
  3. إن تنفيذ الشروط والالتزامات من جهة الجاني يُساعده على تقويم سلوكه والتغلب على العوامل المؤدية لانحرافه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من خلال عقوبة الحبس قصير المدة.
  4. يجوز وفقًا لهذا النظام العقابي أن تأمر المحكمة بوضع الجاني تحت الاختبار خلال المدة المقررة، وذلك بأن تجعله تحت رقابة شخص تعينه لهذا الغرض، ويكون من واجبات هذا الشخص توجيه الجاني إلى ما يجب إتباعه، والإشراف عليه، والتحقق من أنه ينفذ الشروط التي وضعتها المحكمة.

– شروط وقف النطق بالعقوبة:

هناك شروط تكون متعلقة بالجريمة، وشروط متعلقة بالمُجرِم ذاته، وذلك على التفصيل الآتي:

– الشروط المتعلقة بالجريمة:

تقتصر سلطة القاضي في وقف النطق بالعقوبة على الجرائم التي لا تزيد عقوبتها عن حد معين، ويسمح للقاضي بالامتناع عن النطق بالعقاب في جميع الجرائم ما عدا المعاقب عليها بعقوبة جسيمة جدًا، وقد قررت بعض القوانين جرائم مستثناة، حيث لا يستطيع القاضي استخدام سلطته التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب.

 – الشروط المتعلقة بالمجرم:

هناك شروط يجب أخذها في الاعتبار عند استخدام القاضي سلطته التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب، وهي شروط ترتبط بشخصية المجرم، ومن هذه الشروط ما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة، فيحدد مقدار ما انطوت عليه الإرادة الإجرامية للمتهم من خطئه وإثمه، ومنها ما يحدده مقدار الأهلية للمسؤولية ومنها ما تبين به درجة خطورته على المجتمع وعدم سبق الحكم على المتهم.

– إلغاء وقف النطق بالعقوبة:

 لا يتم إلغاء وقف النطق بالعقوبة إلا بحكم قضائي؛ لأن هذا الإلغاء بذاته يستلزم تحديد عقوبة للجريمة التي سبق وقف النطق بعقوبتها، والعقوبة لا يجوز تحديدها إلا بحكم يصدره القضاء؛ لذلك لا محل في هذا المجال لقاعدة الإلغاء القانوني المقررة في بعض القوانين بالنسبة لإلغاء وقف النطق.

  • وقف تنفيذ العقوبة:

يُعتبر نظام وقف تنفيذ العقوبة من أخطر السلطات المخولة للقضاء في مجال تفريد الجزاء وتشخيصه بحسب شخصية المجرم وظروفه، ويُقصد بإيقاف تنفيذ العقوبة هو تعليق العقوبة المحكوم بها على شرط موقف خلال فترة معلومة يُحددها القانون بناءً على اعتبارات تُقدرها المحكمة، فإذا لم يتحقق الشرط خلال فترة من الزمن يحددها القانون، أُعتبر الحكم بالإدانة كأن لم يكن، أما إذا تحقق نفذت العقوبة بأكملها، وهو أحد تدابير الدفاع الاجتماعي التي تطبق على طائفة من المجرمين يكفي بالنسبة لهم التهديد بتوقيع الجزاء حتى لا يعودوا الى ارتكاب الجريمة مرة أخرى، وإذا تعدد المتهمين فللقاضي أن يأمر بوقف تنفيذ العقوبة بالنسبة لأحدهم دون الآخرين، مع بيان الأسباب التي دعته لإيقاف التنفيذ

– شروط وقف التنفيذ:

يُحدد المشرع شروطًا معينة لا يجوز للقاضي أن يُقدر ملاءمة إيقاف تنفيذ العقوبة إلا إذا تحققت، وذلك رغبة من المشرع في تقييد سلطة القاضي بالحدود التي تحقق الردع الخاص دون أن يصطدم مع اعتبارات الردع العام وتحقق العدالة، وهذه الشروط هي:

– الشروط المتعلقة بالمجرم:

يتطلب المشرع بعض الشروط التي يجب توافرها في الجاني حتى يمكنه الاستفادة من وقف تنفيذ العقوبة؛ لأن وقف التنفيذ يهدف إلى الأخذ بيد من ارتكب جريمة لا تدل على خطورة إجرامية؛ وبالتالي فإن ظروفًا خاصة بالجاني يمكن للمحكمة أن تستنتج منها مبررات إيقاف تنفيذ العقوبة بحقه، ومن هذه الظروف أخلاق المحكوم عليه، طباعه، ماضيه، والظروف التي أحاطت بارتكاب الجريمة، ويشترط أن تكون هذه الظروف فيها ما يبعث على الاعتقاد بأن الجريمة المرتكبة هي أمر عارض في حياة الجاني، وأنه لن يعود إلى مخالفة القوانين مستقبلًا.

الشروط المتعلقة بالعقوبة:

لا يثير وقف تنفيذ عقوبة الحبس أية اعتراضات من جانب الفقه، وذلك على أساس أن إيقاف التنفيذ هو في حقيقته أحد أساليب المعاملة الجنائية العقابية التي تهدف إلى تفادي مساوئ تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، تلك المساوئ التي تترتب على اختلاط المحكوم عليه بغيره من المجرمين الخطرين، أو المعتادين على الإجرام داخل السجن، وهو أسلوب مخصص لنوع معين أو لفئة محددة من المحكوم عليهم الذين ترى المحكمة أن عملية تأهيلهم وإصلاح حالهم يمكن أن يتحقق دون تنفيذ العقوبة فيهم؛ لذلك فإن المحكمة تأمر في حكمها بوقف تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تحكم بها عليهم لانعدام الفائدة منها، وقد اقتضت هذه الطبيعة العقابية لإيقاف التنفيذ ضرورة تحديد حد أقصى للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي يمكن تعليق تنفيذها على شرط.

– الشرط المتعلق بالجريمة

إن وقف التنفيذ جائزٌ في الأحكام التي تصدر في القضايا الجنائية أو الجنح إذا كان الحكم لا يتجاوز السجن أو الحبس مدة سنة واحدة، أما في قضايا المخالفات فإن وقف التنفيذ غير جائز، وذلك لأن عقوبة المخالفات إذا شملها وقف التنفيذ؛ فإن ذلك يعني أن تفقد المخالفة كل ما لها من قيمة رادعة، فضلًا عن أن المخالفات لا تظهر في سوابق المتهم؛ وبالتالي يتعذر على المحكمة التثبت من ماضيه وسوابقه في هذا المجال.

وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة السابقة يشترط ألا يكون في القانون المنطبق على الواقعة نص يمنع من وقف تنفيذ العقوبة، وكذلك ينسحب وقف التنفيذ على العقوبة الأصلية المحكوم بها سواء كانت العقوبة غرامةً أو حبسًا، أما العقوبات التبعية والتكميلية فإن وقف التنفيذ لا ينطبق عليها، وهي بذلك تكون واجبةً التطبيق على المحكوم عليه بها.

– أثــار وقف التنفيذ

يترتب على إيقاف التنفيذ أثار متنوعة يقع البعض منها أثناء فترة الاختبار، ويقع البعض الأخر بعد مضي تلك الفترة دون إلغائه من الجهات المختصة.

انقضاء فترة التجربة دون إلغاء وقف التنفيذ:

يتضح لنا أنه من أهم الآثار المترتبة على شمول الحكم بإيقاف التنفيذ عدم جوازه اتخاذ أي إجراء تنفيذي ضد المحكوم عليه خلال فترة الاختبار، غير أن هذا الإيقاف ليس نهائيًا، بل هو قابل للإلغاء في أي لحظة أثناء فترة الاختبار، وذلك إذا ما ارتكب المحكوم عليه جريمة بمعناها القانوني.

فإذا انقضت فترة التجربة دون إلغاء وقف التنفيذ، يصبح عدم التنفيذ نهائيًا؛ فلا تنفذ العقوبة، ويُعتبر الحكم بها كأن لم يكن، ومعنى ذلك أن يفقد الحكم الصادر بالعقوبة كل أثاره الجنائية، ولا يُعتبر سابقةً في العود ولا يحتاج المحكوم عليه الذي استفاد من نظام وقف التنفيذ إلى أن يُرد اعتباره.

– إلغاء إيقاف التنفيذ:

إن الاعتبارات التي من أجلها صدر الأمر بوقف التنفيذ يتمثل أساسًا في الشعور الذي يتولد لدى المحكمة بعد فحصها ودراستها لأخلاق أو ماضي أو سن المحكوم عليه، أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة، والذي يدفعها إلى الاعتقاد بأن هذا الشخص لن يعود في المسـتقبل إلى مخـالفة القانـون بتكرار جريمته أو ارتكاب جريمة أخرى، فإذا صدر من المجرم خلال الفترة التي يحددها القانون لإيقاف تنفيذ العقوبة ما يدل على أن إيقاف التنفيذ لم يكن جديًا في ردعه؛ سيتم إلغاء وقت تنفيذ العقوبة.

رابعًا: التفريد التنفيذي للعقوبة

إذا كنا قد بينا سابقًا التفريد التشريعي والقضائي للعقوبة في السابق، فقد جاء الدور على بيان التفريد التنفيذي للعقوبة، وذلك فيما يلي:

١- المقصود بالتفريد التنفيذي للعقوبة:

“هو الذي تتولاه السلطة التنفيذية في حدود المبادئ والقواعد العامة التي يحددها المشرع، فكثيرًا ما يعهد المشرع إلى السلطة التنفيذية، باعتبارها الجهة القائمة على التنفيذ العقابي وإدارة المؤسسات والمنشآت العقابية التي يتم التنفيذ فيها، بمهمة تفريد العقوبة عندما تكون هي الأجدر على تقدير ملاءمتها لظروف الجريمة والمجرم من ناحية، وتحقيقها للغاية منها كما رسمها القانون من ناحية أخرى، وتقوم فكرة التفريد التنفيذي على أساس أن أخطر عملية تؤثر في مسار حياة المجرم هي مرحلة تنفيذ عقوبته”([11])

ومن صور التفريد التنفيذي للعقوبة، إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقًا لنظام الإفراج الشرطي، أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها، أو إبدالها بأخف منها، متى كان سلوك المحكوم عليه يُنبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة في المستقبل.

٢- وسائل التفريد التنفيذي للعقوبة:

هي الوسائل التي تستعين بها الإدارة العقابية لتحقيق تهذيب المحكوم عليهم وعلاجهم عن طريق نزع القيم الفاسدة من نفوسهم، وخلق إرادة الخضوع للقانون واحترامه لديهم، ويمكن رد الأساليب العقابية إلى التعليم والتهذيب والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية، على أن يسبق تطبيق هذه المعاملة فحص لشخصيات المحكوم عليهم، ثم تقسيمهم إلى طوائف وهو ما يعرف بالتصنيف، ونُبين ذلك فيما يلي:

  • الفحص:

“الفحص هو نوع من الدراسة الفنية التي يقوم بها أخصائيون في مجالات مختلفة لإجراء الدراسة على المحكوم عليه لتحديد شخصيته وبيان العوامل الإجرامية التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة؛ حتى يمكن الملائمة بين ظروفه الإجرامية وبين الأساليب العقابية التي تجعل الجزاء الجنائي المحكوم به يُحقق تأهيله، ويُعتبر الفحص خطوة تمهيدية لتصنيف المحكوم عليه. ولذلك يجب أن يُحدد الفحص درجة خطورة المحكوم عليه في المجتمع، ثم مدى استعداده للتجاوب مع الأساليب العقابية المختلفة، وقد يكون الفحص سابقًا على صدور الحكم الجزائي، وقد يكون لاحقًا على صدور الحكم، وقد يكون الفحص لاحقًا على إيداع المحكوم عليه في المؤسسة العقابية”([12])

– الفحص السابق الحكم على بالجزاء الجنائي:

وهو ما يسمى بالفحص القانوني الذي يهدف إلى تحديد نوع ومقدار التدبير الجنائي اللازم للمتهم، وقد نصت تشريعات عديدة على هذا النوع من الفحوص استجابةً لما تم إقراره من مفاهيم حديثة في مجال السياسة العقابية، ومن التشريعات التي اخذ بهذا النوع من الفحوص، قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الذي يلزم قاضي التحقيق والجنايات، ويجيز له ذلك في مواد الجنح أن يجري بنفسه أو عن طريق شخص ينتدبه لذلك، ليجري تحقيقًا حول شخصية المتهم ومركزه المادي والعائلي والاجتماعي، كما يجيز له الأمر بإجراء فحص طبي ونفسي للمتهم.

– الفحص اللاحق على صدور الحكم بالجزاء الجنائي:

 وهو الذي يُمهد السبيل إلى تصنيف المحكوم عليه؛ لتقرير المعاملة العقابية الملائمة لكل طائفة، حتى يحقق الجزاء غرضه التأهيلي، ويجب أن يكون هذا النوع من الفحص امتداد للنوع الأول؛ مما يقتضي ذلك بنقل ملف شخصية المحكوم عليه إلى مركز الفحص.

– الفحص التجريبي:

 وهو الذي يُجرى بعد دخول المحكوم عليه المؤسسات العقابية، ويقوم به القائمون على المؤسسة من إداريين وحراس، فيلاحظون سلوك المحكوم عليه أثناء إقامته بالمؤسسة ومدى تجاوبه معهم، والعلاقة بينه و بين زملائه، ويُساعد ذلك في تحديد طريق معاملته، ويجب أن يُنصب البحث على الجوانب المختلفة لشخصية المحكوم عليه، وبصفة خاصة الجوانب التي ساهمت في سلوك المجرم سبيل الجريمة، وأهم الجوانب الشخصية التي تكون موضوعًا للفحص هي: الجانب العضوي “البيولوجي”، والجانب العقلي، والجانب النفسي، وكذلك يمتد إلى دراسة حياته المحكوم عليه الاجتماعية.

  • التصنيف

يُقصد بالتصنيف تقسيم المحكوم عليهم إلى طوائف يجمع بين أفرادها تشابه في الظروف، ثم توزيعهم على المؤسسات العقابية بهدف إخضاع كل طائفة للمعاملة العقابية الملائمة لتأهيلهم، ويأتي التصنيف بعد الفحص مباشرة؛ لأنه يتم على ضوء المعطيات التي يقدمها هذا الفحص، ولذلك يُعد التصنيف من أهم أساليب التفريد العقابي.

ولقد كان التصنيف قديمًا تصنيفًا قانونيًا يتمثل في تقسيم المحكوم عليهم حسب نوع الجريمة المرتكبة، ويفصل بين بعض طوائفهم؛ لتفادي التأثير الضار للاختلاط، فكان يتم الفصل بين الرجال وبين النساء، وبين الأحداث وبين البالغين، وبين المحكوم عليهم بعقوبة طويلة المدة وبين المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة، وكان هذا الفصل أو العزل لا يتم بناءً على دراسة الشخصية الإجرامية للمحكوم عليهم، بل وفقًا لطبيعة الجريمة، وبغرض منع التأثير الضار الناجم عن الاختلاط، ونتيجة لتطور الدراسات والأبحاث في علمي الإجرام العقاب، وتطور غرض العقوبة إلى الإصلاح والتأهيل، فقد حل تصنيف الجناة المبني على دراسة الشخصية الإجرامية من جوانبها المختلفة محل التصنيف القانوني، وأصبح غرض التصنيف المساعدة على رسم حدود المعاملة العقابية الملائمة لكل فئة من الجناة التي تتقارب مع الشخصية الإجرامية لجميع أفراد.

ويقوم التصنيف الحديث على عدة أسس أهمها، السن، الجنس، نوع العقوبة، الحالة الصحية، سوابق المحكوم عليه، مدة العقوبة.

وبذلك نكون قد انتهينا من تقديم نبذة بسيطة عن موضوع التفريد العقابي الذي نراه من المواضيع الشيقة جدًا، هذا فضلًا عن أنها من أهم المواضيع القانونية المطروحة بشكل عام في المجال القانوني، والتفريد العقابي يتطور بشكل مستمر مع تطور الجرائم وشخصية المجرم ذاته، حيث إن موضوع التفريد العقابي من المواضيع المرنة التي تتغير قاعدها وصورها من زمن لزمن، ومن مجتمع لمجتمع.

خامسًا: السوابق القضائية المتعلقة بالتفريد العقابي في القانون الأردني

ما ورد في الحكم رقم (80) لسنة 20٢1م – الصادر من محكمة بداية العقبة بصفتها الاستئنافية -بتاريخ ٢٨/٢/٢٠٢١م بما نصه: “حيث نجد ومن ظروف القضية ولغايات تحقيق مبدأ التفريد العقابي، وبأن يكون العقاب متناسب مع جسامة الفعل أن المستأنف ضده قد اعترف بالجرم المسند إليه، وأنه في مقتبل العمر، وأن والد الطفل المتوفى قد اسقط حقه الشخصي عن المستأنف ضده؛ مما يعد من الأسباب المخففة التقديرية، مما نجد معه أن نزول المحكمة ووفقًا لصلاحياتها بالعقوبة وضمن الحد المنصوص عليه (بالمادة 10٠) من قانون العقوبات بعد فرض الحد الأدنى على المستأنف ضده قد أصابه صحيح القانون، وأن سبب الاستئناف لا يرد على القرار المستأنف ويكون مستوجب الرد”.

كما ورد في الحكم رقم (3035) لسنة ٢٠١٩م- الصادر من محكمة بداية الزرقاء بصفتها الاستئنافية- بتاريخ ١٧/١٠/٢٠١٩م بما نصه: “وفي ذلك نجد أن المشرع العقابي قد جرم حيازة السلاح الناري دون ترخيص عملًا (بالمواد3و4و11) من قانون الأسلحة النارية والذخائر، وقد عاقب على جرم حيازة سلاح ناري دون ترخيص… بعقوبة مقدارها الحبس لمدة لا تتجاوز الثلاث سنوات، وذلك إمعانًا من المشرع الجزائي لتحقيق أغراض العقوبة المتمثلة بالردع الخاص هو علاج الخطورة الكامنة في شخص الفاعل ومنعه من العودة الى ارتكاب الجريمة مرة ثانية، وكذلك تحقيق الردع العام وهو إنذار موجه إلى الناس كافة عن طريق ما تحدثه العقوبة المناسبة بتخويفهم من سوء العاقبة لصرفهم عن ارتكاب الجريمة، وفي الحالة المعروضة ولتحقيق الردع الخاص للفاعل مع الأخذ بعين الاعتبار للظروف التي تم ارتكاب الجريمة بها، والكيفية التي ارتكبت بها حماية للمجتمع من خطر حيازة الأسلحة النارية وما ينتج عنه من عواقب، ولا سبيل لتحقيق الردعين الخاص والعام إلا بتشديد العقوبة والارتفاع عن الحد الأدنى لها ، وفي الحالة محل الطعن نجد أنه من الثابت أن المستأنف ضدهما تم ضبطهما أثناء قيادة المستأنف ضده… للمركبة العائدة له وبرفقته المستأنف ضده… حيث بعد تفتيش المركبة تم العثور على سلاح ناري نوع ستار غير مرخص قانونًا قام المستأنف ضده… بتخبئته في المركبة في مكان مخفي داخل التابلو، وعليه فإن محكمتنا تجد أن محكمة الدرجة الأولى، وبالنسبة لجرم حيازة السلاح الناري دون ترخيص قد حكمت بعقوبة الحبس ثلاثة أشهر وهي عقوبة لا تتناسب مع جسامة الجرم المسند للمستأنف ضدهما، وكان عليها ونظرًا للظروف التي ارتكبت بها الجريمة المسندة للمستأنف ضده الارتفاع بالعقوبة المقررة لجرم حيازة سلاح ناري دون ترخيص، وبما يتوافق مع تحقيق الردعين العام والخاص للفاعل والناس كافة، وتدعيمًا لمبدا تفريد العقاب وفق السياسية الجزائية الحديثة التي ظهرت في التشريعات الجزائية الحديثة لاختيار العقوبة الأكثر ملائمة؛ وعليه فإن سبب الاستئناف يرد على القرار المستأنف، ويتعين فسخه من حيث العقوبة تحقيقًا لغرض العقوبة المتمثلة بتحقيق الردع الخاص والردع العام”

وورد أيضًا في الحكم رقم (2579) لسنة 2018م-الصادر من محكمة تمييز جزاء- بتاريخ ٢٠/٩/٢٠١٨م بما نصه:

“وبتطبيق القانون على الواقعة الجرمية الثابتة في هذه الدعوى نجد أن إقدام المتهم المميز ضده على وضع قطعة قماش مبللة بمبيد حشري على فم وأنف المجني عليها بإحدى يديه ومحاولة خنقها باليد الثانية بقصد قتلها والاستيلاء على مصاغها وفقدانها الوعي تشكل جناية الشروع بالقتل تمهيدًا لجناية السرقة، وإن حمل المتهم …. علي أداة حادة سكين يشكل جنحة حمل أداة حادة خلافًا للمادة (155) من قانون العقوبات، وحيث إن محكمة الجنايات الكبرى توصلت للنتيجة ذاتها التي توصلنا إليها من حيث الوقائع والتطبيقات القانونية فيكون قرارها موافقًا للقانون من هذه الناحية، فإن محكمة الجنايات الكبرى جرمت المتهم بجنايتي الشروع بالقتل تمهيدًا لجناية السرقة خلافًا للمادتين (328 و70) من قانون العقوبات، وفرضت على المتهم عقوبة الوضع بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة إحدى عشرة سنة عن جناية الشروع بالقتل، وإدانته بجنحة حمل أداة حادة خلافًا للمادة (155) من قانون العقوبات وحكمت عليه بالحبس مدة أسبوعين والرسوم والغرامة عشرة دنانير ومصادرة الأداة الحادة، وعملًا (بالمادة 72) من قانون العقوبات نفذت العقوبة الأشد وهي الوضع بالأشغال الشاقة مدة إحدى عشرة سنة والرسوم والنفقات ومصادرة الأداة الحادة، وإن محكمتنا بصفتها محكمة موضوع وعلى ضوء ظروف الدعوى والواقعة الجرمية المرتكبة من المتهم وخطورتها والتي تنم عن نفسية جرمية على درجة عالية من الخطورة تجد أن العقوبة التي فرضتها محكمة الجنايات الكبرى لا تتناسب مع خطورة الأفعال التي ارتكبها المتهم بحق المجني عليها …….؛ مما يتعين معه نقض القرار المطعون فيه من حيث العقوبة لورود سبب التمييز عليه تحقيقًا لغرض العقوبة، وتدعيمًا لمبدأ التفريد العقابي، لذلك نقرر نقض القرار المطعون فيه من حيث العقوبة فقط، وتأييده فيما عدا ذلك وإعادة الأوراق إلى مصدرها لإجراء المقتضى القانوني”.

إعداد: محمد محمود

[1] د. خالد سعد جبور، التفريد العقابي في القانون الأردني، (ص١٢).

[2]د. تعريف الأستاذ مصطفى فهمي الجوهري، بن ميسية الياس، (ص 9).

[3] د. محمود عبد ربه محمود القبلاوي، التكييف في المواد الجنائية، ص٨٦.

[4] د. أكرم نشأت إبراهيم، القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن، ص٣٨٤.

[5] د. محمد الجبور، وقف تنفيذ العقوبة في القانون الأردني، (ص٧٨).

[6] د. حسين بن عيسى، وخلدون قلدح، (ص٢١٢).

[7] د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، (ص٦٧٧).

[8] د. محمد سعيد نمور، شرح قانون العقوبات (ص٤٦).

[9] د. حاتم حسن موسى بكار، سلطة القاضي الجنائي في تقدير العقوبة والتدابير الاحترازية، ص١٦٣.

[10] د سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات ص٧٥٨.

[11] د عبد الرحيم صدقي، علم العقاب، (ص٦٥).

[12] د. محمد أبو العلا عقيدة، أصول علم العقاب ص ٢٧٤.