مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي

مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي

يُعتبر مبدأ القناعة الشخصية للقاضي الجزائي هو وليد نظام حرية الإثبات، وهو النظام السائد في أغلب التشريعات الجنائية في مختلف دول العالم، فمن خلال هذا النظام يكون للقاضي الجزائي قدراً كبيراً من الحرية، فالقاضي يصدر حكمه بناء على ما استتب في ضميره من عقيده، وما استشرق في نفسه من يقين.

وليس معنى ذلك أن يتم إغفال الأدلة التي يتعين أن تكون مرجعاً للحكم، ولكن القاضي في مبدأ القناعة الوجدانية يكون لديه متسعاً لاستخدام قدراته الحسية في استنباط الأدلة وذلك بهدف نبيل في النهاية وهو الوصول للعدالة واللحاق بركب الحقيقة.

أولاً: المقصود بمبدأ القناعة الوجدانية

ثانياً: مبدأ القناعة الوجدانية في التشريع الأردني والمصري

ثالثاً: موقف الفقه القانوني من مبدأ القناعة الوجدانية

رابعا: النتائج المترتبة على مبدأ القناعة الوجدانية

خامساً: القيود الواردة على مبدأ  القناعة الوجدانية

سادساً: شروط صحة المبدأ المتعلقة بشخص القاضي الجزائي

سابعاً: الاستثناءات على مبدأ حرية القاضي الجزائي في تكوين قناعته

ثامناً: مبررات مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي

تاسعاً: اقتباس حرفي من وسط أوراق الكتب

عاشراً: مبدأ القناعة الوجدانية في أحكام محكمة التمييز الأردنية والنقض المصرية

حادي عشر: الخاتمة

 أولاً: المقصود بمبدأ القناعة الوجدانية

هناك تعريفات عديدة ومتنوعة لمبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي ولكن يمكن اختصارها جميعا فيما يلي:

تمثل القناعة الوجدانية خلاصة النشاط المبذول من القاضي الجزائي من الأدلة المطروحة أثناء جلسات المحاكمة، فهي تعبير عن الاقتناع بمدى ثبوت أو نفي إسناد الواقعة الإجرامية إلى الشخص الذي يقوم ضده الادعاء بارتكابه الجريمة، سواء بوصفه فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً أو محرضاً.[1]

ثانياً: مبدأ القناعة الوجدانية في التشريع الأردني والمصري

أخذ المشرع الأردني بمبدأ القناعة الوجدانية ومن أمثلة ذلك ما جاء في قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني في (المادة 147) رقم 9 لسنة 1961 وكذلك القانون المعدل رقم (16) لسنة 2001.

فقد جاء في الفقرة (2) من المادة سالفة الذكر فيما يتعلق بوزن البينة ما يلي: ” 2. تقام البينة في الجنايات والجنح والمخالفات بجميع طرق الإثبات ويحكم القاضي حسب قناعته الشخصية”.

كما أن (المادة 148) في الفقرة الأولى من القانون سالف الذكر قد حددت ضوابط تشكيل القناعة بتقريرها حيث جاء فيها ما يلي : ” 1. لا يجوز للقاضي أن يعتمد إلا البينات التي قدمت أثناء المحاكمة وتناقش فيها الخصوم بصورة علنية “.

ومن ثم يتبين أن المشرع الأردني قد أخذ بمبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي، فيحكم القاضي في الدعوى بحسب العقيدة التي استجلاها من مكونات الدعوى وذلك بعد أخذ كافة الأدلة في الحسبان.[2]

أما فيما يتعلق بالمشرع المصري فقد نصت (المادة 302) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على ما يلي: ” يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، ومع ذلك لا يجوز له أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة، وكل قول يثبت أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأه الإكراه أو التهديد يهدر ولا يعول عليه”.

وباستقراء النص السابق يتضح للقارئ أن المشرع المصري اعتمد مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي بصورته المعتدلة، فللقاضي أن يصدر حكمه في القضية المعروضة عليه وفقاً للعقيدة التي ترسخت لديه في وجدانه بيد أن هذا الأمر محكوم وفق ضوابط محددة بينتها المادة سالفة البيان.[3]

ثالثاً: موقف الفقه القانوني من مبدأ القناعة الوجدانية

أجمع من الفقه الجنائي على مبدأ القناعة الوجدانية في مجال الإثبات الجنائي، وقد اختلف بعض الفقهاء في أمر السلطة التقديرية التي تكون للقاضي الجنائي عند إصداره لحكمه، فبعض الفقهاء يقر هذا المبدأ بصفة مطلقة حيث يرو أن للقاضي الجزائي سلطة مطلقة في كافة مجالات الإثبات الجنائي وهي سلطة لا تخضع لرقابة محكمة الموضوع، بينما يرى فريق آخر من الفقهاء أن تلك السلطة لها حدود وضوابط معينة، ويوكد رقابة محكمة التمييز على محكمة الموضوع.[4]

وقد أيد الفقه الأردني مبدأ القناعة الوجدانية على سند أنه أساس للإثبات في القضايا الجنائية، فالمبدأ المذكور يسمح للقاضي الجزائي أن يؤسس حكمه وقناعته على أي دليل يتضح أمامه أنه مناسب ويحقق الحق والعدل.[5]

رابعا: النتائج المترتبة على مبدأ القناعة الوجدانية

أ: سلطة القاضي الجزائي في قبول أو رفض ما يراه مناسباً من الأدلة

فللقاضي الحق أن يستمد حجته واقتناعه مما يراه مناسبا من الأدلة كما أنه يستبعد أي دليل لا يراه مقبولاً من وجهة نظره وعقيدته، وفي ذات الوقت لا يُمكن أن يمنع عنه دليل ما أو يفرض عليه دليل آخر ليستمد قناعته منه بل له الحرية المطلقة وفق قناعته الوجدانية.

ب: حق تقدير الأدلة يعود لقاضي الموضوع

فحجية الدليل وما يترتب عليها يحددها القاضي، فقد تأخذ المحكمة بأدلة ما بحق أحد المتهمين ثم لا ترى أنه أخذها من الحكمة في شيء بحق متهم آخر، حتى وإن كانت الأدلة متماثلة.

ج: مبدأ تساند الأدلة

يستمد القاضي الجزائي قناعته من كافة الأدلة التي تقدم في الدعوى مجتمعة، مما يعني ضرورة التنسيق بين تلك الأدلة أو الربط بينها، وفي حال أن حدث شيء من التناقض بينهما كان ذلك بمثابة هدم للأدلة، وإذا مس أحد الأدلة خللاً أو فساداً كان ذلك مدعاة لأن ينصرف الفساد لباقي الأدلة، بيد أن الحكم الذي يعتمد على أدلة أخرى صحيحة يكون أهلاً للموثوقية.[6]

د: الإيجابية التي يتمتع بها القاضي الجزائي في عملية الإثبات

لا يُمكن أن يُقيد القاضي الجزائي فقط بالألة التي تُعطى له من قبل الخصوم بل إنه يبحث بنفسه عن كافة الأدلة التي يراها مناسبة وتكشف له الحقيقة وإن لم تُقدم له تلك الأدلة من أي طرف من الخصوم، فللقاضي الجزائي سلطة واسعة في البحث عن الحقيقة.[7]

خامساً: القيود الواردة على مبدأ  القناعة الوجدانية

هناك قيود على مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي وجب مراعاتها وجب مراعاتها قبل أن يصدر القاضي الجزائي حكمه، لأنه بمخالفتها يترتب على ذلك البطلان.

أ: توافق الحكم مع العقل والمنطق

بحيث يُمكن القول أن تسبيب الحكم هو مقياس معرفة مدى توافق الحكم مع العقل والمنطق، فالتسبيب معناه أن يقوم القاضي بتحديد كافة الحجج والأسانيد والبراهين والأدلة التي بنى عليها حكمه، ويتعين أن يحوي حكمه خلاصة كافية شافية لما تضمنته الأدلة ويكون مرفق مع ذلك أوجه استشهاده.[8]

ب: بناء الحكم على دليل تم طرحه ومناقشته في الجلسة

فتنص (المادة 148)  من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني في فقرتها الأولى على أنه: “لا يجوز للقاضي أن يعتمد إلا البينات التي قدمت أثناء المحاكمة وتناقش فيها الخصوم بصورة علنية “.

وعليه، فإنه من غير الممكن اعتماد مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي إلا من خلال أدلة طُرحت ونوقشت أثناء الجلسة وبحضور الخصوم ، إلافي استثناءات محددة حصرا  نصت عليها (المادة 162) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني في فقرتها (أ) وهي كما يلي:                          ” إذا تعذر سماع شاهد أدلى بشهادته في التحقيقات الابتدائية بعد حلف اليمين لوفاته أو عجزه أو مرضه أو غيابه عن المملكة أو لأي سبب من الأسباب ترى المحكمة معه عدم تمكنها من سماع شهادته يجوز للمحكمة أن تأمر بتلاوة إفادته أثناء المحاكمة كبينة في الدعوى وفي الجنح التي لا يتم إجراء تحقيق ابتدائي فيها يجوز للمحكمة صرف النظر عن أي شاهد للأسباب نفسها والمبينة في هذه المادة”.

ج : يتعين مشروعية وصحة أدلة الإثبات المطروحة

فمن غير الجائز الاستناد إلا على الدليل الكامل الحجية، بحيث أن بعض الأدلة لا تكون كافية وحدها للحكم إذا لم تعزز بأدلة أخرى فيطلق عليها بناء على ذلك الأدلة الناقصة أو الأدلة الاستثنائية، فمجمل القول إذن أنه ينبغي مراعاة الصحة القانونية في الدليل الجزائي الذي يعتمد عليه القاضي، فللأدلة شروطاً وقواعد وجب اتباعها ومراعاتها حتى يتم وصفة بالدليل الكامل، ليس هذا فحسب بل يتعين أن تكون الوسيلة التي جُلب بها الدليل تتمتع بالمشروعية.

سادساً: شروط متعلقة بشخصية القاضي الجزائي

هناك مجموعة من الشروط ينبغي أن يتمتع بها القاضي الجزائي حتى يكون أهلا للقيام  بممارسة سلطته التقديرية وفق هذا المبدأ وتلك الشروط سنتطرق إليها فيما يلي:

أ: أن يكون القاضي الجزائي متخصصاً

يفضل للقاضي أن يجري دراسات لنفسية المتهم حتى يتكون لديه قناعة معينة بملابسات الجريمة ودوافعها الحقيقية وكافة المسببات لها ليكون لديه في النهاية نظرة شاملة لكيفية إصلاح المجرمين والعقاب المناسب لكل منهم على حدى، والقاضي الجزائي يجب أن يكون متخصصاً لأنه ينظر في أخطر الجرائم وأكثرها حساسية عند المجتمع والتي تمس أمنهم واستقرارهم، ومن ثم فالتخصص مطلوب لأنه يساهم في تقدير القاضي الجيد للأدلة التي بموجبها يفصل في القضية.

ب: التزام القاضي الجزائي في القيام بواجبه

فعلى القاضي الجزائي التزامٌ بفهم النصوص القانونية وتفسيرها والاجتهاد في ذلك ما استطاع من قدرة، كما يتوجب عليه كذلك ممارسة واجباته العملية، فقيام القاضي الجزائي بمهام القاضي أمراً يلزمه  أن يكون عالماً بالقانون ومفسرًا ودارسًا لنصوصه وكيفية تطبيقها على مختلف الدعاوى التي تُعرض عليه.[9]

ج: الحد من القضايا التي ينظرها القاضي الجزائي

يتعين أن يتم تنظيم العمل القاضي بحيث يؤدي هذا التنظيم إلى تقليل عدد القضايا التي تُعرض على القاضي الجزائي حتى يتثنى له أن ينظر ويدقق ويناقش بشكل قانوني وبذهن صافي وبضمير مستريح وبعقل واعي ليصل إلى غرضه من تبيان الحق والحقيقة، فالتحقيق والمناقشة والمرافعة العلنية هما طريق القاضي لاستخلاص الدليل وإعمال مبدأ الشفوية والحياد.[10]

د: استقرار نفسية القاضي

يتعين أن يتم إيكال مهمة القضاء لمن يتمتع بالقدرة على التحكم بأعصابه وأفكاره والقدرة على معالجة الأمور بحكمة وحسن الاستنباط  والاستبيان والتروي في الاستماع وحسن الفهم ورجاحة العقل وفطنته.[11]

هـ: فطنة القاضي الجزائي واستنتاجه الدقيق

يلزم أن يتمتع القاضي الجزائي بملكات الفطنة الخاصة والقدرة على تبيان الحقائق وترجيحها والاستنتاج السليم للأدلة مما يمكنه في النهاية أن يتوصل بذكائه وحنكته بما لديه من خبرات قضائية وقانونية للدليل الدامغ والحقيقة المرجوة التي يطمئن إليها وجدانه ويستريح إليها ضميره.[12]

سابعاً: الاستثناءات على مبدأ حرية القاضي الجزائي في تكوين قناعته

جاء في نص (المادة 147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني في الفقرة الأولى ما يلي: “إذا نص القانون على طرق معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة” ويبنى على ما سبق الفهم أن المشرع الأردني وضح لنا أدلة محددة لإثبات بعض الجرائم، ومن هذه الشروط ما يلي:

 اشتراط أدلة معينة للإثبات

يُمكن أن يُستثنى مبدأ القناعة الوجدانية من التطبيق في بعض الحالات ليحل محله نظام الأدلة القانونية بحيث يُمكن القول أن هناك حالتين من غير الممكن تطبيق هذا المبدأ فيهما:

الحالة الأولى: ما جاء في نص (المادة 147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني في فقرته الثالثة التي نصت على ما يلي: “إذا نص القانون على طريقة معينة في الإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة”. وهذا عين ما فعله المشرع بحيث حدد الأدلة المقبولة على سبيل الحصر لإثبات كل من جريمة الزنا وجريمة الإغواء.

والحالة الثانية: إثبات المسائل غير الجزائية في حال أن كانت تشكل أحد عناصر الجريمة، وبغية تحقيق أدلة إثبات معينة لبعض الجرائم فإن المشرع أشار إلى ذلك من خلال:

1: إثبات جريمتي الزنا والإغواء من خلال أدلة الإثبات القانونية

المشرع حدد الأدلة المقبولة لإثبات كل من جريمة الزنا وكذلك جريمة الإغواء على سبيل الحصر في القانون، والحكمة التي نستنتجها من ذلك أن كلا الجريمتين تنشأ عنهما نتائج بالغة الخطورة وبالرغم من أن الجريمتين وقعتا برضى الطرفين، فلم يترك المشرع باب الإثبات مفتوحا بالكامل، إلا أنه حدد الأدلة المقبولة حتى يتم إثبات جريمة الزنا وذلك بأربعة أدلة نصت عليها (المادة 283) من قانون العقوبات الأردني رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته والمعدل رقم (27) لسنة 2017 حيث جاء في نص المادة السابقة ما يلي: ” الأدلة التي تقبل وتكون حجة للإثبات جريمة الزنا هي ضبط الزاني والزانية في حالة التلبس بالفعل أو أن يصدر عنهما اعتراف قضائي أو وثائق قاطعة بوقوع الجريمة أو أن يصدر عن أحدهما اعتراف قضائي وعن الآخر وثائق قاطعة بوقوع الجريمة “.

أما فيما يتعلق بالأدلة المقبولة في جريمة الإغواء فقد حددها القانون بدليلين فقط وذلك كما جاء في نص (المادة 304) من قانون العقوبات والتي نصت على ما يلي: “الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المشتكى عليه في الخداع بوعد الزواج هي اعترافه لدى المدعي العام أو في المحكمة أو أن يصدر عنه وثائق قاطعة أو مراسلات تثبت ذلك.”

ويتبين من المادتين السابقتين أن القانون حدد الأدلة المقبولة لإثبات جريمة الزنا بأربع أدلة وهي الاعتراف القضائي وكذلك التلبس أو وجود وثائق مؤكدة لوقوع جريمة الزنا أو صدور اعتراف ذو صفة قضائية من أحدهما على الآخر، كما حدد القانون الأدلة المقبولة في جريمة الإغواء بدليلين وهما صدور وثائق قاطعة أو مراسلات عن المشتكي عليه والاعتراف القضائي.

 2: إثبات المسائل غير الجزائية

في أثناء نظر الدعوى الجزائية من الوارد أن تُعرض على القاضي الجزائي مسألة غير جزائية، بمعنى انتمائها لقوانين غير جزائية بيد أنها في ذات الوقت تشكل عنصرًا لازماً وشديد الأهمية لقيام الجريمة ويسمى بالعنصر المفترض للجريمة، وهو عنصر يُفترض قيامه وقت أن يباشر أو يقوم الفاعل بنشاطه، وبدونه لا يُمكن أن نطلق على هذا النشاط صفة الجريمة.[13]

ومن أمثلة العنصر المفترض للجريمة: الشيك في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد، و صفة المواطن في خيانة بلده، والأمانة في جريمة خيانة الأمانة، وغيرها.

ثامناً: مبررات مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي

1_ الحاجة الملحة لظهور هذا المبدأ:

بعد أن ظهرت عيوب وسلبيات نظام الإثبات المقيد، ولكون الدعوى الجنائية تحتاج لهذا المبدأ، وذلك لأن الأمر لا يتعلق بمسائل وتصرفات وأعمال قانونية بقدر ما يتعلق بمسائل قريبة من الواقع، حيث أن الأعمال القانونية يكون من الصعوبة بمكان إعداد الدليل بشأنها مسبقا.

2_ يسمح هذا المبدأ للقاضي أن يتوجه للدليل الذي يراه مناسبا

فطالما يرى القاضي أن هذا الدليل سيكون بمثابة العون له للوصول للحقيقة وكشفها وتبيانها، بشرط أن يكون الدليل قد نوقش وطرح أمام الخصوم في الجلسة ودون في ملف الدعوى.

3_ يحقق هذا المبدأ العدالة

فهذا المبدأ يحمي ويساهم في حماية المتهم البريء ومعاقبة المذنب وكشفه ومن ثم تخليص المجتمع من شره، وذلك بعد الفصل في الدعوى بالكيفية التي تحقق العدالة بين المتخاصمين.

4_ كشف الجرائم المخفية

يبذل الكثير من المجرمين جهداً كبيراً في إخفاء جرائمهم التي يقومون بها، وذلك من خلال إخفاء البصمات أو العلامات أو سجلات المكالمات أو تسجيلات الكاميرات أو غيرها من الأدلة أو حتى التخلص من الشهود وتهديدهم، فيساهم مبدأ القناعة الوجدانية في الكشف عن هؤلاء وتحديد هويتهم.[14]

5_ الابتعاد عن مساوئ نظام الإثبات المقيد

كان لنظام الإثبات المقيد عديد من المساوئ مثل الاعتماد على طرق ووسائل غير آدمية وتنافي حقوق الإنسان وقواعد العدالة مثل التعذيب، وكذلك لأن القاضي المقتنع لا يوجد لديه ثمة ما يمكنه فعله بالنطق بالبراءة أو الإدانة طالما لا يملك دليلاً عليه.

6_ اعتماد الإثبات الجزائي على القرائن القضائية

نظراً لصعوبة الإثبات الجزائي فمن الوارد أن تنعدم الأدلة، ومن ثم لا يكون هناك بديلاً أمام القاضي الجزائي سوى استنتاج القرائن القضائية بغية الوصول للحقيقة، ومن ثم كان من الطبيعي السماح للقاضي الجزائي أن يكون له قدر كبير من الحرية في استنتاج القرائن القضائية مما يظهر أمامه من دلائل ومستندات.

7_ طبيعة المصالح التي يحميها القانون الجزائي

يقوم القانون الجزائي بحماية كيان المجتمع ككل وكوحدة واحدة وحماية مصالح أفراده وممتلكاتهم من أي اعتداء، وهو أمر يستلزم أن يخول للقضاة سلطة إثبات الجريمة بأي وسيلة يرونها مناسبة طالما أنها تساهم في استقرار المجتمع وتهدف للمصلحة الاجتماعية العليا لأفراده.[15]

8_ صعوبة الإثبات في المواد الجزائية

يقوم المجرم عادة بطمس ملامح الجريمة ومحو آثارها مما يترتب عليه صعوبة كشفها وبالتالي تتعذر الأجهزة الأمنية من استجلاب الأدلة الكافية ومن ثم يتعذر معهم القضاة في كشف المذنب والمدان من البريء، وهو أمر يستلزم معه أن يعمل القاضي الجزائي قناعته الوجدانية بهدف الوصول لدلائل توصل إلى الحقيقة.

عاشراً: مبدأ القناعة الوجدانية في أحكام محكمة التمييز الأردنية والنقض المصرية

أ: مبدأ القناعة الوجدانية في أحكام محكمة التمييز الأردنية

جاء في حكم محكمة التمييز بصفتها الجزائية في القرار رقم 273 لسنة 1994 ما يلي :

تقام البينة في القضايا الجزائية بجميع طرق الإثبات، وتحكم المحكمة حسب قناعتها الوجدانية فتأخذ منها ما ترتاح إليه وتستبعد مالا تطمئن إليه عملاً بنص المادة (147/2) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني، وبذلك فإن عدم سماح المحكمة للشاهدين الذين طلب الدفاع سماعهما بداعي أنهما كانا قريبين من ساحة المحكمة أثناء سماع الشاهد الذي سبقهما يخالف القانون إذ أن عقيدة المحكمة تتكون من نية مجتمعة طبقاً لقاعدة تساند الأدلة ومن واجب المحكمة أن تأمر ولو من تلقاء نفسها أثناء نظر الدعوى، وفي أي دور من أدوار المحاكمة فيها بتقديم أي دليل وبدعوة أي شاهد تراه لازماً لظهور الحقيقة.

كما جاء في قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 525 لسنة 1994 ما يلي:

لمحكمة الموضوع أن تكون عقيدتها من أي دليل يقدم إليها، فالقانون لم يقيد القاضي الجزائي بأدلة معينة، بل وله بصفة مطلقة أن يكون عقيدته من أي منها.

وجاء في قرار محكمة التمييز رقم 815 لسنة 1999 بصفتها الجزائية ما يلي:

البينة في القضايا الجزائية تقام بجميع طرق الإثبات، ويحكم القاضي حسب قناعته الشخصية عملًاً بأحكام الفقرة الأولى من المادة (147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني، والقاضي في سبيل تكوين قناعته يستطيع أن يأخذ بأقوال بعض الشهود، ويستبعد التي لا يطمئن إليها، كما أن له أن يأخذ بجزء من هذه الشهادات وينبذ الباقي ولو أدى ذلك إلى تجزئة أقوال بعض الشهود.

ب: موقف محكمة النقض المصرية:

عبرت محكم النقض المصرية عن هذا المبدأ في أكثر من حكم لها كما الآتي:

وأن من المسلم به فقهاً وقضاءً لأن للقاضي الجنائي أن يتحقق من كل دليل يطرح أمامه سواء من جانب المتهم أم من جانب الخصوم مهما كان نوع الدليل الذي يُقدم إليه وأن يقدر قيمته من حيث صحته أو كذبه وإنتاجه في الدعوى أو عدم إنتاجه وأن يأخذ بنتيجة تحقيقه، إما لمصلحة الذي قدم الدليل وإما عليه.[16]

وفي حكم آخر جاء فيه:

بأن العبرة في الإثبات في المواد الجنائية هي باقتناع المحكمة واطمئنانها إلى الدليل المقدم إليها، فالقانون لم يقيد القاضي بأدلة معينة بل خوله بصفة مطلقة أن يكون عقيدته من أي دليل أو قرينة تقدم إليه.[17]

وفي حكم آخر قالت محكمة النقض:

لقد فتح القانون الجنائي فيما عدا ما استلزمه من وسائل خاصة في الإثبات بابه أمام القاضي الجنائي على مصراعيه يختار من كل طرقه ما يراه موصلاً إلى الكشف عن الحقيقة.[18]

حادي عشر: الخاتمة

مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي هو مبدأ متعارف عليه في أغلب التشريعات الوضعية، وهو مبدأ خلاصته أن للقاضي الجزائي حرية الاعتماد على الدليل عندما يريد اتخاذ قراره ولكن بشرط أن يكون الدليل تم استجلابه بالطرق القانونية الصحيحة وذلك بعد أن يتم طرحه في الدعوى ويناقش أمام الخصوم في ساحة المحكمة، ومن ثم فإن هذا المبدأ يعتمد على أسس تختلف عن تلك الأسس التي تخص القاضي المدني الذي يتقيد بالبينات من حيث معطيات ونصوص قانونية محددة لا يستطيع الخروج عنها.

إعداد/ نسمه مجدي.

[1] العلاوين، ممدوح عارف هزاع، القناعة الوجدانية للقاضي الجنائي في التشريع الأردني، رسالة دكتوراه، 2014، ص35

[2] المرجع السابق، ص45.

[3]المرجع السابق، ص43.

[4] عبد الملاه، هلالي، (1987)، النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية، ط1، ص170.

[5] بني عامر، محمد زكي، (1982)، الإثبات في المواد الجنائية، الفنية للطباعة والنشر، مصر، ص 132.

[6] حسني، محمود نجيب، (1992)، الاختصاص والإثبات في الإجراءات الجزائية، دار النهضة العربية، القاهرة، ص60.

[7] الخرابشة، صالح محمد، مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي: دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، الأردن، 2018، ص 31.

[8] جوخدار، حسن، (1992)، شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، ص 348.

[9] عوض، محي الدين محمد، (1981)، القانون الجنائي، مبادئه الأساسية ونظرياته العامة، دار النهضة العربية، القاهرة، ص 591.

[10] الخرابشة، صالح محمد، مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي: دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، الأردن، 2018، ص 40.

[11] نجيب، محمد فتحي، مقال عن ثقافة القاضي كشرط للصلاحية، وليست ترفا فكريا، مجلة القضاة، العدد الخامس والسادس، ص٢٥.

[12] الخرابشة، صالح محمد، مبدأ القناعة الوجدانية للقاضي الجزائي: دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، الأردن، 2018، ص 41.

[13] مكي، محمد عبد الحميد، (2007)، اختصاص القاضي الجنائي بنظر المسائل غير الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، ص 187 وما بعدها.

[14] قنديل، أشرف جمال، (2012)، حرية القاضي الجنائي في تكوين اقتناعه، دار النهضة العربية، القاهرة، ص78.

[15] نصر الدين، مروك، (2007) محاضرات في الإثبات الجنائي، الجزء الأول، النظرية العامة للإثبات، دار هوعه للطبع والنشر، الجزائر، ص 79.

[16] نقض مصري في 27 يناير م أحكام النقض سن 25 رقم 71 ص 74.

[17] نقض مصري في 6 مارس، سمة 1980، مجموعة القواعد القانونية، س 31، رقم 62.

[18] قرار محكمة النقض المصرية رقم (20) نوفمبر لسنة 1980، مجموعة أحكام محكمة النقض، س20، رقم 35، ص164.

error: Alert: Content is protected !!