جريمة إحداث عاهة دائمة
لا يمكننا أن ننكر أن مختلف المجتمعات في عصرنا الحالي أصبحت تعاني بشكل كبير من معدلات الجريمة، وخاصة جرائم الاعتداء بأنواعها، سواء كانت التي تستهدف حياة الإنسان أو التي تستهدف سلامة جسده، وتنبع خطورة ذلك من أن تلك الجرائم تستهدف أغلى وأعز ما يملكه الإنسان وهي حياته وجسده، ولا تستهدف تلك الجريمة فئة أو طائفة معينة من أفراد المجتمع، بل تستهدفهم جميعاً.
ومن أخطر جرائم الاعتداء والضرب والجرح هي الجريمة التي يتولد عنها لدى المجني عليه عاهة دائمة، وذلك لأن آثار تلك الجريمة تظل قائمة لديه وتؤثر على حياته الشخصية بالسلب، وتنتقص من قدرات معينة لديه لباقي حياته، ولذلك كان المشرع الجنائي مهتماً بتجريم فعل الاعتداء المسبب لتلك العاهة، ونظراً لخطورة جريمة إحداث عاهة دائمة فستكون هي محور هذا المقال.
أولاً: ماهية جريمة إحداث عاهة دائمة
ثانياً: أركان جريمة إحداث عاهة دائمة
ثالثاً: عقوبة جريمة إحداث عاهة دائمة
رابعاً: بعض أحكام محكمة التمييز ذات العلاقة
أولاً: ماهية جريمة إحداث عاهة دائمة
1- تصنيف الجريمة
تدخل جريمة إحداث عاهة دائمة ضمن طائفة جرائم الإيذاء، ويقصد بجرائم الإيذاء الجرائم التي يتم فيها فعل الاعتداء مستهدفاً سلامة جسد الإنسان، وهو ما يعد اعتداء على أهم حق من حقوق الإنسان والمتمثل في حقه في سلامة بدنه وما يمتلكه من حواس وهبها الله سبحانه وتعالى له، وقد كانت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية شديدة الحرص على حماية الإنسان بحيث يكون في مقدوره التمتع بقواه الجسدية والحسية التي منحها له الله، وبذات الصورة التي تتفق مع طبيعة جسده وطبيعة وظائفه التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها، مما يجعل أي اعتداء يترتب عليه تغيير يضر بعضو من أعضاء الجسد أو يسبب خلل في تأدية أي عضو منها لوظيفته بالشكل الطبيعي المعتاد يعد بمثابة الإيذاء المعاقب عليه قانوناً[1].
ولنكون أكثر تحديداً فجريمة إحداث عاهة دائمة تندرج تحت بند جرائم الضرب والجرح، حيث إن العاهة الدائمة – والتي سنتعرض لماهيتها – لا تنتج إلا عن اعتداء مقصود إما بالضرب أو بالجرح، وسنتعرض لبيان تعريف كل من الضرب والجرح عند التعرض للركن المادي لجريمة إحداث العاهة الدائمة.
2- تعريف العاهة الدائمة
لم يتم الاتفاق بين مشرعي القوانين العقابية وفقهاء القانون الجنائي على تعريف محدد وصريح لماهية العاهة المستديمة، ولعل ذلك هو السبب الرئيسي في خلو التشريعات العقابية من تعريف للعاهة الدائمة واقتصارها على إيراد لبعض صورها وحالاتها التي ينطبق عليها حال قيامها وصف العاهة الدائمة.
ويمكننا أن نضع تعريفاً عاماً وشاملاً للعاهة الدائمة على أنها هي الأثر الذي لا يندمل أو يشفى بجسد الإنسان والذي يترتب على وقوع اعتداء عليه من قبل الغير، وهي تعتبر النتيجة الإجرامية التي تتحقق على إثر ارتكاب الجاني لفعل الإيذاء على أي جزء من أجزاء جسد الإنسان وأعضائه المختلفة، وقد يكون ذلك الأثر مادياً ملموساً وظاهراً كما هو الحال في الجروح التي ينتج عنها بتر لجزء أو عضو من الجسد أو تشويهه، أو قد يكون داخلياً وغير ظاهر للعيان كما الحال في ضعف القدرة على السمع أو الإبصار أو فقدها، أو نقص في قدرة أحد أعضاء الجسد الداخلية على أداء وظيفتها بشكل كامل وطبيعي.
ويشترط في العاهة التي يصاب بها الإنسان أن تتوافر فيها صفة الدوام، بمعنى أن يكون من المؤكد عدم وجود إمكانية لشفاء المصاب بها منها نهائياً، ويكون تقدير مدى إمكانية شفاء المصاب من عدمه هو أمر طبي وبالتالي يتم الرجوع في تحديده إلى الطب الشرعي باعتباره الجهة المختصة بذلك.
وبالرجوع إلى القانون الأردني وبعض القوانين والتشريعات العقابية العربية الأخرى تبين لنا أنها لم تتعرض للعاهة الدائمة بتعريف واضح ومحدد، ولكنها لجأت إلى النص على بعض الصور التي تعد حال تحققها بمثابة العاهة الدائمة، وقد حدد المشرع الأردني بنص (المادة 335) من قانون العقوبات الصور والحالات التي يتحقق بقيام إحداها وصف العاهة الدائمة، وتتمثل تلك الصور والحالات فيما يلي:
– قطع أو استئصال عضو من أعضاء جسد الإنسان.
– بتر أو تعطيل أحد أطراف جسد الإنسان.
– تعطيل أحد حواس الإنسان عن العمل.
– تشويه جسيم لأحد أعضاء أو أجزاء جسد الإنسان.
– أي عاهة أخرى تتصف بالدوام ويكون لها شكل العاهة الدائمة.
حيث جعل القانون توافر إحدى الإصابات التي تصنف ضمن أي طائفة من الطوائف السابقة هو تحقق للعاهة المستديمة لدى من يقع عليه الاعتداء.
ثانياً: أركان جريمة إحداث عاهة دائمة
رسخت محكمة التمييز الأردنية بصفتها الجزائية فيما جرت عليه أحكامها لأركان جريمة إحداث العاهة الدائمة التي تجرمها (المادة 335) من قانون العقوبات، حيث أوردت في الحكم رقم 949 لسنة 2021 تمييز جزاء والصادر بجلسة 2/6/2021 أنه (وجدت المحكمة أن أركان جناية الإيذاء وفقاً لأحكام المادة (335) من قانون العقوبات تتمثل بما يلي: 1- محل الجريمة أن يقع الفعل على جسم إنسان حي. 2- الركن المادي الذي يقوم على ثلاثة عناصر: -النشاط الجرمي وهو الأمر الذي يصدر من الفاعل بنية تحقيق النتيجة. -النتيجة الجرمية التي يعاقب عليها القانون وهي الإيذاء الذي ينال من جسم المجني عليه أي المساس الذي ينال حق المجني عليه في سلامة جسمه في عنصر أو أكثر من عناصره. – علاقة السببية وهي العلاقة بين السلوك والنتيجة. 3- الركن المعنوي: وهو أن تتوجه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة على النحو الذي يحددها القانون فتنصرف الإرادة إلى تحقيق جميع أركانها وعناصرها وظروفها وشروطها وهو العلم والإرادة أي العلم بأركان الجريمة وإرادة تتجه إلى الفعل والنتيجة. بالإضافة إلى الأركان السابقة لجرم الإيذاء يلزم أن يتوافر عنصر آخر وهو أن يؤدي الفعل إلى قطع أو استئصال عضو أو بتر أحد الأطراف أو إلى تعطيلها أو تعطيل إحدى الحواس عن العمل أو تسبب في إحداث تشويه جسيم أو أية عاهة أخرى دائمة أو لها مظهر العاهة الدائمة).
مما يتبين معه أن جريمة إحداث عاهة دائمة تستند في قيامها إلى ثلاث أركان رئيسية وهي محل الجريمة والركن المادي والركن المعنوي.
1- محل الجريمة
باعتبار أن تجريم فعل إحداث العاهة الدائمة قد تم تقريره من حيث الأصل لحماية الإنسان وحقه في سلامة جسده وحواسه، فإن التجريم بداهة ينصب على الحالة التي يكون فيها المجني عليه (المصاب) هو إنسان حي، فلا يعقل إحداث عاهة دائمة لشخص متوفي، حيث إن ذلك الفعل متى وقع على جثة شخص فارق الحياة فإنه يدخل في إطار جرائم التعدي على حرمة الأموات التي جرمها المشرع الأردني في أكثر من موضع، وعلى الرغم من كون هذا الفعل في تلك الحالة يمثل جريمة، إلا أن الجريمة هنا لا تعتبر جريمة من جرائم إحداث العاهة الدائمة.
وجرائم الإيذاء بوجه عام يكون مناط التجريم فيها هو وقوعها على إنسان حي، وهو أمر منطقي خاصة وأن المصلحة القانونية الأساسية التي يحميها القانون في تلك الجرائم التي تمس بسلامة جسد الإنسان هو أن يبقى هذا الجسد صالحاً للقيام بكافة وظائفه بشكل طبيعي ووفقاً للمألوف، فلا تتعطل أياً منها سواء بشكل دائم أو مؤقت، وأن يظل الإنسان محتفظاً بتكامله الجسدي[2].
وتنطبق صفة الإنسان الحي على الإنسان منذ لحظة ميلاده وخروجه إلى الحياة وحتى لحظة وفاته وخروج الروح من جسده، والفترة بين هاتين اللحظتين هي فترة حياته التي يعد فعل الاعتداء بإحداث عاهة دائمة له خلالها هو فعل مجرم ضمن إطار نص المادة (335) من قانون العقوبات الأردني.
2- الركن المادي
يتشكل الركن المادي لجريمة إحداث عاهة دائمة من ثلاث عناصر رئيسية لا يقوم إلا بتوافرها معاً، وهذه العناصر هي النشاط الإجرامي الممثل في فعل الإيذاء أو الاعتداء، والنتيجة الإجرامية المتمثلة في العاهة الدائمة، وعلاقة السببية بينهما.
أ- النشاط الإجرامي
استهل المشرع نص مادة التجريم رقم (335) من قانون العقوبات بعبارة (إذا أدى الفعل ….)، والمشرع هنا وصف الفعل الممثل للنشاط الإجرامي بأنه (فعل) بصورة مجردة ودون وصف واضح، بما يجعل الفعل المقصود هنا هو فعل الاعتداء، وذلك باعتبار أن طائفة جرائم الاعتداء على سلامة جسد الإنسان لا تتحقق إلا بارتكاب فاعلها أي فعل من أفعال الضرب أو الجرح أو الإيذاء.
أما الضرب فيقصد به أحد أشكال الاعتداء المادي على جسد الإنسان، وهو اعتداء يتخلف عنه ألم بجسد المعتدى عليه ولا يترتب عليه أي اختلال في تركيب جسد الإنسان أو التركيبة الخاصة به، ويكون له شكل مادي ملموس.
ولا يختلف الأمر في وصف الفعل بكونه ضرب باختلاف الأداة المستخدمة في تنفيذ هذا الفعل، فيصدق وصف الضرب متى كان الجاني يستخدم يده لصفع أو لطم أو لكم المجني عليه أو قدمه لركله، أو صدمه والارتطام به بصورة قوية وعنيفة[3]، أو دفع المجني عليه بقوة ليسقط من مكان عال أو في حفرة فيترتب على ذلك السقوط إصابة بالمجني عليه، كما يمكن أن يتم باستخدام أي أداة أخرى طالما لم يترتب على استخدامها حدوث جرح بالمجني عليه.
بينما يعرف الجرح بأنه الاعتداء الذي يقع على أي عضو أو جزء من جسم الإنسان ويترتب عليه حدوث تغيرات ملحوظة وملموسة في أنسجة الجزء المعتدى عليه، وفي الغالب يكون الجرح في صورة تمزق في الأنسجة، والتمزق هو تفكيك وتدمير الترابط والوحدة بين جزئيات أنسجة الجسد، والجرح يعتبر بمثابة صورة من صور تفكيك وتدمير هذا الترابط[4].
كما يعد أيضاً من قبيل الجرح ما يصيب الإنسان من كسور ورضوض وحروق، وما يصيبه من جراء التعرض لطلق ناري أو طعن باستخدام سكين، أو حتى باستخدام الجاني ليديه فقط بضرب المجني عليه حتى يحدث هذا الجرح فيصبح الفعل هنا فعل بالجرح وليس بالضرب.
ولا يشترط في الفعل ليصنف من أفعال الجرح أن تسيل الدماء من جسد المجني عليه، حيث يمكن أن يترتب على فعل الجرح حدوث نزيف داخلي لدى المجني عليه، كما يمكن أن يكون هذا الفعل باستخدام حيوان مفترس يتم دفعه لافتراس المجني عليه[5].
أما بالنسبة لفعل الإيذاء فمما لا شك فيه أن الإيذاء لا يقتصر في صور تحققه على الضرب والجرح فقط، حيث إن دائرة الأفعال التي تعد من قبيل الإيذاء تتسع بشكل كبير لتشمل العديد من الأفعال التي لا يمكن تكييفها بأنها فعل ضرب ولا فعل جرح، وذلك كما في الحالة التي يتمثل فيها فعل الإيذاء بقذف المجني عليه بمادة حارقة، أو إعطاء المجني عليه حبوب أو عقاقير تتسبب في حدوث الإصابة، فجميع تلك الأفعال تدخل تحت مسمى فعل الإيذاء.
وهو ما يمكننا معه تعريف الإيذاء بأنه كل فعل يمكن أن يمثل اعتداء على سلامة جسد الإنسان ولا يعد من قبيل أفعال الضرب أو الجرح، ولكنه في ذات الوقت يصيب المجني عليه بإصابات تدخل في عداد العاهات الدائمة.
ب- النتيجة الإجرامية
النتيجة الإجرامية يقصد بها النتيجة المترتبة والناتجة عن السلوك الإجرامي الذي يرتكبه الجاني من فعل ضرب أو جرح أو إيذاء، وهذه النتيجة الإجرامية في جريمة إحداث عاهة دائمة تختلف عن نظيرتها في سائر الجرائم الأخرى، حيث إن لها خصوصية تتمثل في نص المشرع عليها بشكل صريح في قانون العقوبات، حيث أورد المشرع في نص (المادة 335) من قانون العقوبات الصور التي تتحقق بها العاهة الدائمة باعتبارها النتيجة الإجرامية المتحققة على إثر فعل الاعتداء في جرائم إحداث العاهة الدائمة، وتتمثل صور تلك النتيجة الإجرامية في:
– قطع أو استئصال أي عضو من أعضاء جسد الإنسان، وبتر أحد أطراف جسد الإنسان أو تعطيلها عن عملها بصورة طبيعية، ويقصد بقطع واستئصال أي عضو أي فصله عن جسد الإنسان بشكل كامل كقطع اليد أو القدم أو غيرها مما يعتبر معه فقداناً لمنفعة هذا الجزء أو العضو، أو الاعتداء الذي ينتج عنه شلل كلي أو جزئي للإنسان[6].
– تعطيل أحد حواس الإنسان المختلفة كلياً أو التأثير على كفاءتها بإضعافها جزئياً، وذلك كما هو الحال في ضعف دائم للسمع أو فقدانه على إثر اعتداء من الجاني عليه بالصفع أو الضرب، فيعد هنا فقدان حاسة السمع أو ضعفها بمثابة العاهة الدائمة.
– حصول تشويه جسيم في جسد الإنسان، والذي قد يتخلف عن قيام الجاني برش محتوى كيميائي أو مواد حارقة على وجه أو جسد المجني عليه، فيتخلف عنها تلك التشوهات التي لا تزول والتي وإن كانت قد لا تعطل أياً من وظائف الجزء المصاب، إلا أنها تشوه الطبيعة الإنسانية التي كرم الله الإنسان بها وخلقه عليها.
– أي إصابة تصيب الإنسان في جسده وتصنف كعاهة أو يكون لها شكل ومظهر العاهة الدائمة.
مما يتبين معه أن المشرع قد نص على تلك الصور على سبيل المثال وليس الحصر، والدليل على ذلك أنه اختتم صور العاهة الدائمة بعبارة (….. أو أية عاهة أخرى دائمة أو لها مظهر العاهة الدائمة ….)، وحسناً فعل المشرع في ذلك النص، حيث ترك المجال مفتوحاً أمام أي صورة أخرى لصور العاهة الدائمة، والتي إن حاول إيرادها حصراً فقد يغفل بعض منها خارج نطاق التجريم.
ج- علاقة السببية
تعتبر علاقة السببية هي الرابط الذي يعقد الصلة بين النشاط الإجرامي والنتيجة الإجرامية، بحيث يمكننا القول أن النتيجة الإجرامية لم تكن لتتحقق إلا بوقوع هذا الفعل، وعلاقة السببية في جريمة إحداث عاهة دائمة هي التي تجعل من فعل الجاني وسلوكه الإجرامي الذي ارتكبه سبباً في حدوث العاهة الدائمة[7]، وبدون قيامها لا تقوم الجريمة حتى وإن تحقق الفعل الإجرامي من قبل الجاني، وحدثت الإصابة الممثلة للعاهة الدائمة بالمجني عليه، فغياب تلك الرابطة ينفي علاقة فعل الجاني بإصابة المجني عليه، وبالتالي تنتفي المسؤولية الجنائية في حقه.
ويثور هنا تساؤل هام قوامه هل تقوم علاقة السببية بين فعل الاعتداء الصادر من الجاني وبين الإصابة التي أصابت المجني عليه حال تدخل عوامل خارجية تفاقمت بتلك الإصابة لتصل بها إلى حد أن تصبح عاهة دائمة؟
الإجابة هنا هي أن القانون يحمل الجاني جميع ما هو متوقع تحققه من نتائج على إثر اعتدائه على المجني عليه، إلا إذا كانت العوامل الخارجية التي تدخلت هي عوامل غير معتادة أو مألوفة أو متوقعة، ويكون تحديد مدى تأثير تلك العوامل الخارجية ومدى تحقق علاقة السببية من سلطة محكمة الموضوع التقديرية، وذلك باعتبار علاقة السببية من المسائل الموضوعية التي تخضع لتقدير المحكمة دون معقب عليها.
3- الركن المعنوي
في شأن بيان طبيعة الركن المادي في جريمة إحداث عاهة دائمة نود أن نتعرض بداية لحكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الجزائية الرقيم 656 لسنة 2006 جزائي والصادر بجلسة 23/7/2006 والمتضمن أنه (ما يميز جريمة الشروع بالقتل قصداً عن جريمة التسبب في احداث عاهة دائمة المبحوث عنها في المادة (335) من قانون العقوبات هو النية التي اتجهت اليها إرادة الجاني من فعل الاعتداء، فالنية الجرمية في جريمة الشروع بالقتل قصداً تتجه إلى إزهاق روح المجني عليه وفي جناية التسبب في إحداث عاهة دائمة تتجه إلى إيقاع الضرب والجرح والمساس بجسم المجني عليه فقط).
مما يتضح معه من حكم التمييز الموضح أعلاه أن القصد الجنائي الذي يمثل الركن المعنوي لجريمة إحداث عاهة دائمة هو القصد الجنائي العام، فهي من الجرائم العمدية التي يلزم تحقق القصد الجنائي عند مرتكبها، سواء كان قاصداً لإحداث العاهة الدائمة أو غير قاصد، فهذه الجريمة أيضاً تعد من الجرائم التي أولى فيها القانون اهتماماً بالقصد الاحتمالي والذي يعتبره مساوياً للقصد المباشر حال عدم توافره، فيكون الجاني المتهم بالاعتداء على المجني عليه مسؤولاً عن العاهة الدائمة متى تحققت على إثر هذا الاعتداء، حتى وإن كان الجاني لم يتعمد أو يقصد أو حتى يتوقع تحققها، فالعبرة في تلك الحالة بمعيار الشخص المعتاد، والذي لو تواجد محل الجاني وفي ذات الظروف والملابسات لتوقع تحقق العاهة الدائمة في ظل إحاطته بكافة العوامل التي أدت بفعل الاعتداء لإحداث مثل تلك النتيجة[8].
ويعتبر الركن المعنوي لجريمة إحداث عاهة دائمة قائماً ومتحققاً متى كان الجاني قد تعمد فعل الاعتداء على جسد المجني عليه والذي ترتب عليه حدوث العاهة، وذلك سواء كان الجاني ق قصد وتعمد إحداث تلك العامة بالمجني عليه أو لم يقصد، فيكون هنا تحمله للمسؤولية الجنائية قائماً على النتائج المحتملة والمتوقع حدوثها والتي أشرنا لها سلفاً بالقصد الاحتمالي.
مما يمكننا هنا أن نعتبر الركن المعنوي لجريمة إحداث العاهة الدائمة هو ذاته القصد الجنائي لدى مرتكب فعل الاعتداء ذاته المتسبب في إصابة المجني عليه بالعاهة الدائمة، حيث إنه بمجرد اتجاه نية الجاني وقصده لإيقاع فعل الاعتداء – ضرب أو جرح أو إيذاء – على جسد المجني عليه، فإن الركن المعنوي لجريمة إحداث العاهة الدائمة يعد قائماً في حقه، بغض النظر عن اتجاه نيته وقصده لإحداث العاهة من عدمه.
ثالثاً: عقوبة جريمة إحداث عاهة دائمة
قرر المشرع الأردني في نص مادة التجريم رقم (335) من قانون العقوبات في شأن من يرتكب جريمة إحداث عاهة دائمة بالأشغال المؤقتة التي لا تتجاوز مدتها العشر سنوات، ولم يضع المشرع لعقوبة تلك الجريمة حد أدنى، ولكنه اكتفى بالحد الأقصى تاركاً لمحكمة الموضوع المعروض عليها القضية تحديد العقوبة وفقاً لعدة معايير، وبالتالي منح قاضي الموضوع في خطوة محمودة مزيد من الحرية في تحديد مدة العقوبة وفقاً لظروف كل حالة على حدة.
ونود أن نشير إلى أن تحقق العاهة الدائمة لا تعد فقط جريمة مستقلة، بل هي أيضاً ظرف مشدد حال تحققها في بعض الجرائم، حيث نجد في نص (المادة 330 مكرر) من قانون العقوبات، والتي تعاقب على استخدام الأسلحة النارية والمفرقعات بدون موافقة مسبقة، حيث جعل عقوبة هذا الفعل الأشغال المؤقتة متى نتج عن ذلك أي عاهة دائمة، كما نجد أيضاً نص (المادة 381) عقوبات والتي تنص صراحة على تشديد العقوبات الخاصة ببعض جرائم أمن الدولة الداخلي بإضافة نصف العقوبة المقضي بها على مدتها متى ترتب على الجريمة إصابة أي شخص بعاهة دائمة.
رابعاً: بعض أحكام محكمة التمييز ذات العلاقة
– حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الجزائية رقم 2447 لسنة 2021 جزاء والصادر بجلسة 17/10/2021 والمتضمن أنه (أما بالنسبة إلى جناية إحداث عاهة دائمة بالاشتراك المسندة للمتهم حسن فتجد المحكمة أنه من الثابت ومن خلال شهادة المجني عليه والتقارير الطبية الخاصة به أن أفعال المتهمين والمتمثلة بإطلاق الرصاص عليه قد تسببت بإحداث عاهة جزئية دائمة له تمثلت ببتر ساقه اليسرى الأمر الذي تجد معه المحكمة أن هذه الأفعال تشكل أيضاً جناية إحداث عاهة جزئية دائمة بالاشتراك).
– حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الجزائية رقم 2349 لسنة 2021 جزاء والصادر بجلسة 5/10/2021 والمتضمن أنه (ما أقدم عليه المتهمان من أفعال وقيامهما بضرب المشتكي بواسطة عصي ومواسير حديد كانا يحملانها على أنحاء متفرقة من جسم المشتكي وتحصله على تقرير طبي خلاصته محدودية في حركة في مفصل الكتف الأيمن مع توهان وعدم تركيز وعصبيه واضطراب شخصيه ونقص سمعي مزدوج ووجود ندبه بطول 8 سم من أعلى الكتف الأيمن ويعاني من تشنجات وتشكل عاهة جزئية دائمة وعجز مقداره) 70%) من قواه الجسدية فإن أفعالهم هذه تشكل كافة أركان وعناصر جرم الإيذاء المفضي إلى عاهة خلافاً لأحكام المادة (335) من قانون العقوبات الأمر الذي يستوجب تجريمهما بهذا الجرم).
خامساً: الخاتمة
في إطار ما تعرضنا إليه في هذا المقال بشأن جريمة إحداث العاهة الدائمة وخاصة في القانون والقضاء الأردنيين، يتبين لنا أن هناك تكاملاً رائعاً بين ما قرره القانون وبين ما يطبقه القضاء على أرض الواقع، خاصة وأن النصوص القانونية مهما وصلت في صياغتها إلى أي مرتبة من مراتب الدقة، فإن هذه الدقة لن تؤتي أكلها إلا بتطبيقها بصورة دقيقة تماثل الدقة التي صيغت بها، لذلك بجانب إشادتنا بدور القانون الأردني في تنظيم الضوابط الخاصة بتلك الجريمة، وحرصه على حماية حق الإنسان في التمتع بجسده وأعضائه وحواسه بصورة كاملة ومتكاملة، فإننا نشيد بالدور الذي قام به القضاء الأردني ومازال يقوم به في تطبيق النصوص القانونية الخاصة بذلك بصورة تتفق مع مضمونها وتحقق أهدافها.
كتابة: أحمد عبد السلام
[1] – باسم رمزي – جريمة إيذاء الأشخاص – مجلة الأمن والحياة – جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية – الرياض – مجلد 29 – ع (337) – يونيو 2010 – ص 57.
[2] – جمال الحيدري – شرح قانون العقوبات: القسم الخاص – مكتبة السنهوري – لبنان – 2015 – ص 294.
[3] – فتوح الشاذلي – جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال – دار المطبوعات الجامعية – مصر – 2002 – ص 134.
[4] – محمد سعيد نمور – شرح قانون العقوبات: القسم الخاص (الجرائم الواقعة على الأشخاص) – دار الثقافة – الأردن – ج1 – 2002 – ص 117.
[5] – محمد زكي أبو عامر وسليمان عبد المنعم – قانون العقوبات الخاص – منشورات الحلبي الحقوقية – لبنان – 2003 – ص 352.
[6] – فخري الحديثي – شرح القسم الخاص من قانون العقوبات – مطابع الزمان – بغداد – 1996 – ص 199.
[7] – محمد صبحي نجم – الجرائم الواقعة على الأشخاص – دار الثقافة – الأردن – 2002 – ص 136.
[8] – طه صافي – قانون العقوبات الخاص في ضوء التشريع اللبناني والفرنسي – المؤسسة الحديثة للكتاب – بيروت – 1998 – ص215.