السرية المصرفية في سويسرا

قوانين السرية المصرفية في سويسرا

دائماً ما يثور تساؤل حول انجذاب الأموال الطائلة نحو البنوك السويسرية وعلى وجه الخصوص من قادة وكبار ساسة الدول حول العالم، والواقع أن هذا الأمر يجد سببه الجوهري في النظام القانوني المصرفي السويسري وعلى وجه الخصوص ما يتعلق منه بأحكام سرية بيانات العملاء، وعدم جواز الكشف عن هويتهم أو الإفصاح عن معلومات حول حساباتهم، فضلاً عن أن سويسرا تُعد من الدول التي أعلنت حيادها 1815 من خلال مؤتمر فيينا، وهذا ما أدى إلى تدفق كم هائل من رؤوس الأموال نحو البنوك السويسرية لاطمئنان أصحاب تلك الحسابات أن أموالهم ستكون في مأمن عن أيدي حكومات دولهم.

وفي مقالنا الحالي سنبين أحكام السرية المصرفية المتبعة في البنوك السويسرية ومدى الانعكاسات التي ترتبت على اتباع سويسرا لتلك النظم من السرية المصرفية.

أولاً: المفهوم العام للسرية المصرفية:

ثانياً: السرية المصرفية في القانون السويسري:

ثالثاً: التزام البنوك السويسرية بالسرية المصرفية:

رابعاً: لماذا يُفضل أصحاب الثروات البنوك السويسرية عن غيرها:

خامساً: نطاق التزام البنوك السويسرية بالسرية المصرفية:

سادساً: تأثير قانون الامتثال الضريبي الأمريكي على المنظومة المصرفية السويسرية:

سابعاً: اتفاقيات روبيك والسرية المصرفية السويسرية:

تاسعاً: خاتمة:

 

أولاً: المفهوم العام للسرية المصرفية:

تُعرف السرية المصرفية بأنها: ” الواجب المُلقى على عاتق المصرف بعدم إفشاء الأسرار التي حاز عليها بفعل وظيفته وذلك بموجب نصوص قانونية صريحة تفرض التكتم وتعاقب الإفشاء”.[1]

ومن ثم يتضح من خلال هذا التعريف أن سند التزام البنك في الحفاظ على سرية بيانات ومعلومات عُملائه ينبع من النصوص القانونية المطبقة في الدولة التي يوجد بها البنك، إلا أن الواقع يكشف لنا عكس ذلك، حيث أن هناك العديد من الدول التي تكون فيها المصارف ملتزمة بالمحافظة على سرية معلومات عملائها على الرغم من غياب النص التشريعي الذي يفرض عليها مثل هذا الالتزام.

ولذلك فيمكن القول بأن السرية المصرفية تُعد بمثابة أعراف راسخة مستمدة من أصول العمل المصرفي، بموجبها يلتزم البنك بعدم إفشاء أسرار أو بيانات عملائه التي تحصل عليها من خلال تعاملات العميل مع البنك، ومن ضمن تلك المعلومات رقم حساب العميل والمبالغ المودعة في حسابه والقروض والشيكات التي يسحبها العميل والتحويل المصرفية التي يجريها.

ومن الجدير بالذكر أن السرية المصرفية تعود جذورها الأولى في العصر الحديث إلى البنوك السويسرية منذ عام 1933 وذلك عندما حظرت الحكومة النازية على يهود أوروبا نقل أموالهم وممتلكاتهم خارج ألمانيا مما اضطرهم إلى اللجوء إلى المصارف السويسرية التي أمنت لهم عدم الكشف عن تلك الممتلكات للحكومة النازية.[2]

وتبع ذلك أن قام مجلس الشعب السويسري في عام 1934 بسن قانون المصارف السويسري والذي قرر في (المادة 47/ب) منه إلزام البنوك بالحفاظ على السرية المصرفية للعملاء وتجريم انتهاكها.

ثم انتشرت فكرة السرية المصرفية في مختلف دول العالم ونالت اهتمام بالغ ليس فقط من المصارف، بل والحكومات على حد سواء، ومن تبعات ذلك أن الدساتير أصبحت تحوي نصوصاً تحمل صفة الإلزام بالحفاظ على الأسرار المصرفية.

ثانياً: السرية المصرفية في القانون السويسري:

كما ذكرنا سابقاً، فإن الجذور الأولى للسرية المصرفية في العصر الحديث ترجع إلى قانون البنوك السويسري والذي أقرته الجمعية الفيدرالية السويسرية لمكافحة الاستيلاء على أصول العملاء والمعلومات، وترتب على ذلك أن تدفق كم هائل من رؤوس الأموال إلى البنوك السويسرية وعلى وجه الخصوص إلى بنك ” يو بي إس ” والذي كان يُعرف حينها باسم ” مؤسسة البنك السويسري “.

ولم يقف الأمر إلى حد إصدار هذا القانون، حيث أن المُطالع للتشريعات السويسرية المتعلقة بالمعاملات البنكية سيجد أن سويسرا أصدرت ما يزيد على عشرين قانون متعلق بالمعاملات المصرفية والسرية المصرفية وذلك في الفترة الواقعة بين عام 1934 إلى عام 2008. وكان لذلك انعكاسات مهمة ليس فقط على المستوى المحلي لدولة سويسرا، بل على المستوى الدولي، حيث احتلت سويسرا المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر السرية المالية.

ثالثاً: التزام البنوك السويسرية بالسرية المصرفية:

إن المُطالع لأحكام المعاملات البنكية المصرفية في سويسرا سيتجلى له أن البنوك السويسرية تلتزم بأقصى درجات الصرامة في الحفاظ على السرية المصرفية لعملائها، فمثلاً بالنظر إلى بنك ” يو بي إس ” السويسري والذي يُعد أكبر مؤسسة مصرفية في سويسرا سنجد أنه من أكثر البنوك التزاماً بالحفاظ على الأسرار والمعلومات الخاصة بعملائه.

فمن تطبيقات الالتزام بالحفاظ على السرية المصرفية في سويسرا أنه يُحظر على البنك أن يُناقش نشاطات عملائه أو يُناقش معلوماتهم الشخصية بصورة علنية، وكذلك لا يجوز للبنوك السويسرية أن تحتفظ بمعلومات عن عُملائها بصورة غير آمنة أو أن تقوم بمشاركتها عبر الحدود، بل ولا يجوز للمصارف السويسرية أن تُسلم بيانات عُملائها إلى جهات التحقيقات أو الحكومات الأجنبية، لأنها إن فعلت ذلك ستتعرض إلى تحريك مسئوليتها من قبل الحكومة السويسرية ذاتها ناهيك عن حق العملاء في مقاضاة تلك المصارف.

وكذلك لا يجوز للبنوك السويسرية أن تتدخل في شئون العملاء ويتعين عليها حمايتهم من ذلك من قبل أي جهات تحقيق أخرى سواء أكانت وطنية أم أجنبية، ولا يجوز أيضاً للبنوك السويسرية أن تكشف عن حسابات العملاء إلا بموافقتهم، ولا يكون للبنوك السويسرية أن تحدد الهوية الأصلية لعملائها ولا ينبغي لها تحديد كم الأصول المودعة من قبلهم، بل ويكون للعملاء المتعاملين مع البنوك السويسرية الحق في إنشاء حسابات بأسماء مستعارة أو باستبدال أسمائهم بأرقام سرية.

وحقيقة الأمر أن التزام البنوك السويسرية بالسرية المصرفية لا يجد سنده أو تأييده من جانب البنوك ذاتها أو الحكومة السويسرية، بل أن الشعب السويسري يُعد أحد دعائم السرية المصرفية للنظام المصرفي السويسري، حيث أن الشعب السويسري في عام 1985 رفض في تصويت شعبي وضع قيود على السرية المصرفية مما أعطى للسرية المصرفية في سويسرا تأييداً واسعاً.[3]

حساب الاوفشور:[4]

وهناك ما يُسمى بحساب الاوفشور، والذي يُعد حساب بنكي بدون اسم مما يُساعد صاحب الحساب على إخفاء هويته الشخصية عن موظفي البنك، حيث بموجب هذا الحساب يقوم موظفي البنك بإعطاء العميل رمزاً يكون بمثابة هويته البديلة، ومن خلال هذا الرمز يستطيع صاحب الحسب إعطائه لأي شخص أخر ليكون له الحق في التصرف في الأموال المودعة في هذا البنك، وبالتالي فإن الأشخاص المتحصلين على أموال من طرق غير مشروعة سيجدون ضالتهم في مثل هذا النوع من الحسابات البنكية الذي يقيهم مؤنة الكشف عن هويتهم أو عن مصدر أموالهم. ولكن تجدر الإشارة إلى أن حساب الاوفشور ليس حكراً على البنوك السويسرية، حيث يُسمح بإنشاء مثل هذا الحساب في بعض الدول مثل أمريكا وبريطانيا.

ولكن لا يقف الأمر عن هذا الحد، بل أن هناك تطبيقات أقصى صرامة من ذلك للسرية المصرفية المتبعة في سويسرا، حيث أن بنك ” يو بي إس ” السويسري يمتلك العديد من الأقبية المصرفية السرية الغير مُعلن عنها والتي يتم تخزين سبائك الذهب والألماس بها وغير ذلك من الأصول الأخرى، فتلك الأقبية لا يُعلم مكانها وإن كان هناك من يزعم بتواجدها في المناطق الجبلية في جبال الألب السويسرية.

وهذه المخابئ لا تخضع للقوانين المصرفية السويسرية، بل ولا يكون للمصارف ذاتها أن تخبر الهيئات التنظيمية السويسرية عن محتويات تلك المخابئ. وفي سبيل تعزيز وزيادة تلك المخابئ قام بنك ” يو بي إس ” في فترة الثمانينيات والسبعينيات بشراء أربع مخابئ عسكرية سويسرية سابقة لاستخدامها في تخزين الأصول الخاصة ببعض العملاء، ثلاثة من تلك المخابئ لا يمكن الوصول إليها براً، بل وأن الوصول إلى تلك المخابئ لا يكون إلا من خلال الحصول على تصريحات أمينة متعاقبة ومتعددة.

رابعاً: لماذا يُفضل أصحاب الثروات البنوك السويسرية عن غيرها:

الواقع من الأمر أن ذلك يعود إلى العديد من الأسباب تأتي على رأسها نظم السرية المصرفية المتبعة في سويسرا والتي عرضنا لبعض النبذات عنها، والتي من شأنها أن تحمي أموال العملاء وتمنع من الكشف عن القيم الحقيقية المودعة في تلك البنوك من قبلهم.

هذا فضلاً عن الاستقرار السياسي الذي تتمتع به دولة سويسرا نظراً لكونها دولة محايدة، وهذا ما أدى إلى عموم الاستقرار الاقتصادي في سويسرا وهذا ما جعل عملة الفرنك السويسرية من أكثر العملات أماناً واستقراراً في العالم، حيث أن نسبة التضخم لتلك العملة تكاد تكون منعدمة.

أضف إلى ذلك أن سويسرا ليست من دول الاتحاد الأوروبي، حيث رفض الناخبون السويسريون عام 1992 الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مما يعني أنها بمنأى عن الالتزام بالقوانين والالتزامات الخارجية التي تفرض على دول الاتحاد الأوروبي.

خامساً: نطاق التزام البنوك السويسرية بالسرية المصرفية:

بعدما عرضنا لبعض الجوانب الخاصة بالسرية المصرفية المطبقة في سويسرا، يتبارد إلى الذهن تساؤل مؤداه: هل السرية المصرفية في سويسرا توصف بأنها مطلقة؟

الواقع أن الإجابة على هذا التساؤل تأتي بالنفي، حيث أن نظام السرية المصرفية المطبق في سويسرا ليس مطلقاً، فهناك حالات يجوز فيها الكشف عن حسابات العملاء، إلا أن تلك الحالات تتسم بأنها حالات استثنائية نادرة، وذلك مثل الأوامر القضائية، بالإضافة إلى الالتزام بالإفصاح عن بيانات بعض العملاء وذلك بموجب قانون الامتثال الضريبي الأمريكي والذي سنتولى إلقاء الضوء عليه في مقالنا.

وجديراً بالذكر أنه في عام 1989 عملت سويسرا على إنشاء تشريع بشأن محاربة غسيل الأموال، وبموجب هذا التشريع تلتزم المصارف بأن تكشف للحكومة عن بيانات أي عملية مشبوهة. وتلى ذلك أن أصدرت لجنة الرقابة على المصارف السويسرية تعميماً لوقف فتح حسابات بأسماء مستعارة وذلك عام 1991.

واعتباراً من الأول من تموز 2004، لم يعد يجري في المصارف السويسرية تحويلات إلى حساب مصرف خارج البلاد دون ذكر هوية طالب التحويل، فطلبات التحويل من دون تحديد العميل الذي طلب التحويل ستكون مرفوضة من قبل المصارف السويسرية، وهذا نتيجة لتعديل (المادة 15) من أمر لجنة الأعمال المصرفية السويسرية عن منع غسيل الأموال.[5]

سادساً: تأثير قانون الامتثال الضريبي الأمريكي على المنظومة المصرفية السويسرية:

بداية نشير إلى أن السرية المصرفية السويسرية تعرضت للعديد من الهجمات التي كانت تهدف إلى وهنها، فمن تلك الهجمات نذكر مثلاً مُطالبة الولايات المتحدة الأمريكية لسويسرا بالكشف عن حسابات مرتبطة بأنشطة إرهابية وذلك إبان الحادث الإرهابي الذي تعرضت له أمريكا في 11سبتمبر، هذا فضلاً عن ما تم ذكره سابقاً بشأن نطاق السرية المصرفية في سويسرا.

إلا أن قانون فاتكا الأمريكي “FATCA”  يُعد واحد من أقوى الأليات التي اعترضت السرية المصرفية السويسرية وأدت إلى تحجيمها بصورة بالغة، ففي عام 2010 أقرت الحكومة الأمريكية قانوناً للامتثال الضريبي على الحسابات الأمريكية خارج الولايات المتحدة الأمريكية ليدخل القانون حيز النفاذ بعد أربع سنوات من تاريخ إقراره، ويهدف هذا القانون إلى تعزيز الشفافية الضريبية على كافة الأشخاص الذي يجرون تعاملات مالية مع شتى المؤسسات المالية حوال العالم، فبموجب هذا القانون تلتزم كافة المصارف الغير أمريكية بالإفصاح عن المعلومات الخاصة بالعملاء الأمريكيين لمصلحة الضرائب الأمريكية إذا كان رصيد العميل يزيد على خمسين ألف دولار أو كان العميل يُساهم بما يزيد عن 10% في رأس مال شركة أجنبية أو إذا كان العميل مرتبط بجمعيات أو عمليات ائتمان.[6]

فيتضح إذن أن قانون فاتكا “FATCA” يهدف إلى الحد من التهرب الضريبي وتهريب الأموال، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرج مواجهة التهرب الضريبي ضمن الحرب على الأموال الغير مشروعة، وبموجب ذلك تبرر تطبيق القوانين المتعلقة بمواجهة التهرب الضريبي على كافة أعضاء المجتمع الدولي.

وفي حال مُخالفة أحد المصارف الأجنبية لأحكام هذا القانون فإن الولايات المتحدة الأمريكية تفرض عليها عقوبات تصل إلى استقطاع 30% من الدخل الأساسي ذي المصدر الأمريكي، وكذلك استقطاع ذات النسبة من مكاسب رأس المال على بيع بعض الأصول التي توجد بالولايات المتحدة الأمريكية.

ولقد رضخت سويسرا إلى قانون الامتثال الضريبي الأمريكي حيث قامت سويسرا بإصدار قانون بموجبه يتم تنفيذ اتفاق فاتكا بين سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني جواز الكشف عن بيانات العملاء الأمريكيين أو المتمتعين بجنسيات من بينها الجنسية الأمريكية إلى (IRS) من قبل السلطات المالية السويسرية.

سابعاً: اتفاقيات روبيك والسرية المصرفية السويسرية:

تُعد اتفاقيات روبيك الثنائية التي أبرمتها سويسرا مع كل من ألمانيا والنمسا والمملكة المتحدة من الأليات التي وجهت إلى السرية المصرفية السويسرية، حيث بموجب تلك الاتفاقيات يلتزم العميل بأن يدفع الضرائب المتأخرة الملتزم بها مقابل الاحتفاظ بسرية بياناته، حيث أن إحجامه عن ذلك يؤدي إلى قيام البنوك السويسرية بالإفصاح عن بياناته لسلطات دولته المختصة.

ثامناً: نموذج لانهيار السرية المصرفية السويسرية أمام السلطات الأمريكية:

في عام 2008 وجهت الولايات المتحدة الأمريكية اتهاماً إلى بنك ” يو بي إس ” السويسري بأنه قام بمساعدة عملاء أمريكيين على التهرب الضريبي، وتم تقديم طلب بغرض الكشف عن هوية العملاء الوارد ذكرهم في الاتهام المقدم ضد البنك، إلا أن الإدارة الفيدرالية السويسرية للضرائب رفضت طلب السلطة الأمريكية المختصة (IRS) بالتذرع بالسر المصرفي، وهذا ما دعا السلطات الأمريكية إلى ممارسة العديد من الضغوطات على السلطات السويسرية وذلك من خلال إيداع شكاوى إضافية ضد مجموعة إطارات البنك وهذا ما قد يؤدي إلى سحب الترخيص البنكي الأمريكي من بنك ” يو بي إس “.

وعلى إثر ذلك أمرت السلطات السويسرية لمراقبة السوق المالية بتحويل الملفات الكاملة ل 285 عميل إلى السلطات الأمريكية وذلك في عام 2009، وكان ذلك استناداً إلى المادتين ( 25، 26) من القانون البنكي السويسري والذي يجيز للسلطات السويسرية اتخاذ تدابير وقائية حال تعرض البنك لخطر الإعسار حفاظاً على حقوق الدائنين – أي العملاء – وللعمل على استقرار النظام المصرفي السويسري.

وفي وقت لاحق رفضت المحكمة الإدارية الفيدرالية السويسرية الطعون المقدمة من العملاء الذين تم تحويل الملفات الخاصة بهم إلى السلطات الأمريكية على سند من القول بأن البيانات قد تم إحالتها بالفعل إلى السلطات الأمريكية.

إلا أن المحكمة الفيدرالية في قرار لها بتاريخ 5 يناير/ جانفي لعام 2010 أكدت على أن قرار السلطة السويسرية المختصة بمراقبة السوق المالية بنقل الملفات البنكية إلى السلطات الأمريكية يمثل خرقاً للقانون، وأن نقل تلك الملفات لا يُعد من قبيل الإجراءات الوقائية المنصوص عليها في (المادتين 25، 26) من قانون البنوك السويسري، فتلك الإجراءات ليس من شأنها أن يتم نقل بيانات العُملاء أو الإفصاح عنها لجهات أخرى، ولكن طعنت السلطة السويسرية المختصة بمراقبة السوق المالية ( La Finma ) على هذا القرار وترتب على ذلك أن أصدرت المحكمة الفيدرالية قرار لها عام 2011 أقرت بموجبه قانونية نقل البيانات التي قامت بها السلطة السويسرية معللة ذلك بأن عدم نقل تلك البيانات إلى السلطات الأمريكية كان من شأنه أن يعرض الاقتصاد السويسري لمخاطر جمة.

تاسعاً: خاتمة:

يتضح إذن من خلال ما تقدم أن السرية المصرفية السويسرية تقف واهية أمام الضغوطات العالمية الجامحة التي من شأنها أن تودي بالاقتصاد السويسري، وإزاء ذلك لن تجد سويسرا ملجأ آمناً سوى الامتثال لتلك الضغوطات والعمل على التخفيف من وطأة السرية المصرفية التي تتبعها النظم المصرفية السويسرية.

فهناك العديد من الأليات الدولية والاتفاقيات التي تم إبرامها من أجل كبح جماح السرية المصرفية السويسرية والتي تستغل لإخفاء الأموال المشبوهة التي يتحصل عليها أصحاب الحسابات، أو التي تقف حائلاً أمام مواجهة التهرب الضريبي، ومن ضمن تلك الأليات أيضاً – بالإضافة إلى ما تم ذكره – الاتفاقية الدولية للتبادل التلقائي للمعلومات المصرفية والتي تم إبرامها عام سنة 2017، حيث وافقت سويسرا بموجب تلك الاتفاقية على الإفصاح التلقائي عن بعض المعلومات المالية لبعض البلدان بغية التدقيق الضريبي. إلا أن تلك المعلومات لا تشمل نفقات العميل – أي عمليات السحب التي يجريها – أو ما يقوم به من استثمارات.

إن المستقرئ للوضع العالمي يجد أن هناك استياء عارم ضد ما يتحلى به النظام المصرفي السويسري من سرية مصرفية، والتي من خلالها يتم تهريب الأموال المنهوبة من شعوب الدول النامية أم المتقدمة إلى تلك البنوك، والدول النامية هي الأكثر تضرراً من سياسة السرية المصرفية والتي من خلالها تقف دولهم عاجزة عن استرداد الأموال التي تم تهريبها.

ففي بيان صدار عن شبكة العدالة الضريبية الكائنة بلندن والصادر عام 2018 تم تصنيف القطاع المصرفي السويسري على أنه “الأكثر فسادًا” في العالم وذلك يرجع إلى اتباع سياسة صارمة للسرية المصرفية.

وكانت أخر الهجمات التي توالت على السرية المصرفية السويسرية تلك التسريبات التي أرسلت إلى صحيفة “زود دويتشة تسايتونغ الألمانية” عن بعض الحسابات في بنك ” كريدي سويس ” السويسري والتي على إثرها تم التقدم بالعديد من البلاغات ضد النظام المصرفي السويسري.

إعداد/ أحمد منصور.

[1] يوسف عودة غانم، السرية المصرفية بين الإبقاء والإلغاء ” دراسة في فلسلفة السرية المصرفية “، العلوم الاقتصادية – العدد 26، 2010، ص 183.

[2] أنظر مناع سعيد العجمي، حدود التزام البنك بالسرية المصرفية والآثار القانونية المترتبة عند الكشف عنها “دراسة مقارنة”، 2010، ص 16.

[3] أنظر ميادة صلاح الدين تاج الدين، السرية المصرفية: آثارها وجوانبها التشريعية ” دراسة مقارنة لعدد من الدول الأجنبية والعربية “، 2009، كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة الموصل، ص 270، 271. وفي مقال مشابه انظر تسريبات وثائق ومرسالات شركة أوبر ، ومقال مدى قانونية تسريبات بنك كريدي سويس. ومقال السرية المصرفية في سويسرا، ومقال وثائق باندورا ، ومقال وثائق بنما .

[4] لمزيد من المعلومات عن الأوفشور ودوره في غسيل الأموال أنظر عمر محمد عثمان صقر، دور المراكز المالية المصرفية الخارجية “مراكز الاوفشور” في نمو ظاهرة غسيل الأموال في الدول النامية، 2013، جامعة حلوان – كلية التجارة وإدارة الأعمال، ص 228 وما بعدها.

[5] ميادة صلاح الدين تاج الدين، مرجع سابق، ص 271.

[6] أنظر إلياس بوزيدي، قانون الامتثال الضريبي الأمريكي على الحسابات الأجنبية وأثره على المنظومة المصرفية السويسرية، 2018، جامعة الملك عبد الحميد بن باديس مستغانم – كلية الحقوق والعلوم السياسية – مخبر حقوق الإنسان والحريات العامة، ص 101.

error: Alert: Content is protected !!